Translate

تفسير القرآن الكريم لجميع العلماء

ترجم الصفحه

[سورة التوبة 41 - 47]


(انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَٰكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ۚ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ * لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)
[سورة التوبة 41 - 47]
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
قال سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى مسلم بن صبيح: هذه الآية " انفروا خفافا وثقالا " أول ما نزل من سورة براءة وقال معتمر بن سليمان عن أبيه قال: زعم حضرمي أنه ذكر له أن ناسا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليا وكبيرا فيقول إنى لا آثم فأنزل الله " انفروا خفافا وثقالا " الآية أمر الله تعالى بالنفير العام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام غزوة تبوك لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب وحتم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال في المنشط والمكره والعسر واليسر فقال " انفروا خفافا وثقالا " وقال علي بن زيد عن أنس عن أبي طلحة: كهولا وشبانا ما سمع الله عذر أحد ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل وفي رواية قرأ أبو طلحة سورة براءة فأتى على هذه الآية " انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله " فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبانا جهزوني يا بني فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات ومع أبي بكر حتى مات ومع عمر حتى مات فنحن نغزو عنك فأبى فركب البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام فلم يتغير فدفنوه فيها وهكذا روي عن ابن عباس وعكرمة وأبي صالح والحسن البصري وسهيل بن عطية ومقاتل بن حيان والشعبي وزيد بن أسلم أنهم قالوا في تفسير هذه الآية " انفروا خفافا وثقالا " كهولا وشبانا. وكذا قال عكرمة والضحاك ومقاتل بن حيان وغير واحد وقال مجاهد: شبانا وشيوخا وأغنياء ومساكين وكذا قال أبو صالح وغيره قال الحكم بن عتيبة: مشاغيل وغير مشاغيل وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى " انفروا خفافا وثقالا " يقول انفروا نشاطا وغير نشاط وكذا قال قتادة وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد " انفروا خفافا وثقالا " قالوا: فإن فينا الثقيل وذو الحاجة والضيعة والشغل والمتيسر به أمره فأنزل الله وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا " خفافا وثقالا " أي على ما كان منهم. وقال الحسن بن أبي الحسن البصري أيضا في العسر واليسر وهذا كله من مقتضيات العموم في الآية وهذا اختيار ابن جرير. وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: إذا كان النفير إلى دروب الروم نفر الناس إليها خفافا وركبانا وإذا كان النفير إلى هذه السواحل نفروا إليها خفافا وثقالا وركبانا ومشاة وهذا تفصيل في المسألة وقد روي عن ابن عباس ومحمد بن كعب وعطاء الخراساني وغيرهم أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة " وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله وقال السدي قوله " انفروا خفافا وثقالا " يقول غنيا وفقيرا وقويا وضعيفا فجاءه رجل يومئذ زعموا أنه المقداد وكان عظيما سمينا فشكى إليه وسأله أن يأذن له فأبى فنزلت يومئذ " انفروا خفافا وثقالا" فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناش فنسخها الله تعالى " ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله " وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا أيوب عن محمد قال: شهد أبو أيوب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا ثم لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا عاما واحدا قال وكان أبو أيوب يقول: قال الله تعالى " انفروا خفافا وثقالا فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا وقال ابن جرير: حدثني سعيد بن عمر السكوني حدثنا بقية حدثنا جرير حدثني عبدالرحمن بن ميسرة حدثني أبو راشد الحراني قال: وافيت المقدام بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وإله وسلم جاسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص وقد فصل عنها من عظمه يريد الغزو فقلت له قد أعذر الله إليك فقال أتت علينا سورة البعوث " انفروا خفافا وثقالا " وقال ابن جرير: حدثني حيان بن زيد الشرعي قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان واليا على حمص قبل الأفسوس إلى الجراجمة فرأيت شيخا كبيرا هما قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار فأقبلت إليه فقلت يا عم لقد أعذر الله إليك قال: فرفع حاجبيه فقال يا بن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا ألا إنه من يحبه الله يبتليه ثم يعيده الله فيبقيه وإنما يبتلي الله من عبادة من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إلا الله عز وجل. ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله فقال " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " أي هذا خير لكم في الدنيا والآخرة لأنكم تغرمون في النفقة قليلا فيغنمكم الله أموال عدوكم في الدنيا مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " تكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرده إلى منزله بما نال من أجر أو غنيمة " ولهذا قال تعالى " كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون " ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وإله وسلم قال لرجل " " أسلم "قال أجدني كارها قال أسلم ولو كنت كارها ".
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَٰكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ۚ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
يقول تعالى موبخا للذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وقعدوا بعد ما استأذنوه في ذلك مظهرين أنهم ذوو أعذار ولم يكونوا كذلك فقال " لو كان عرضا قريبا " قال ابن عباس: غنيمة قريبة " وسفرا قاصدا " أي قريبا أيضا " لاتبعوك أي لكانوا جاءوا معك لذلك ولكن بعدت عليهم الشقة أي المسافة إلى الشام وسيحلفون بالله أي لكم إذا رجعتم إليهم لو استطعنا لخرجنا معكم أي لو لم يكن لنا أعذار لخرجنا معكم قال الله تعالى يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون.
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو حصين بن سليمان الرازي حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر عن عون قال: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ نداء بالعفو قبل المعاتبة فقال عفا الله عنك لم أذنت لهم وكذا قال مورق العجلي وغيره وقال قتادة: عاتبه كما تسمعون ثم أنزل التي في سورة النور فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء فقال " فإذا أستأذنوك لبعض شأنهم فائذن لمن شئت منهم " الآية. وكذا روي عن عطاء الخراساني وقال مجاهد نزلت هذه الآية في أناس قالوا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا ولهذا قال تعالى " حتى يتبين لك الذين صدقوا " أي في إبداء الأعذار " وتعلم الكاذبين ".
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
يقول تعالى هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم في القعود لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإن لم تأذن لهم فيه. ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله فقال " لا يستأذنك " أي في القعود عن الغزو ". الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم " لأنهم يرون الجهاد قربة ولما ندبهم إليه بادروا وامتثلوا ".
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ
إنما يستأذنك " أي في القعود ممن لا عذر له " الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر " أي لا يرجون ثواب الله في الدار الآخرة على أعمالهم " وارتابت قلوبهم " أي شكت في صحة ما جئتهم به " فهم في ريبهم يترددون " أي يتحيرون يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى وليست لهم قدم ثابتة في شيء فهم قوم حيارى هلكى لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا.
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ
يقول تعالى " ولو أرادوا الخروج " أي معك إلى الغزو " لأعدوا له عدة " أي لكانوا تأهبوا له " ولكن كره الله انبعاثهم " أي أبغض أن يخرجوا معكم قدرا " فثبطهم " أي أخرهم " وقيل اقعدوا مع القاعدين " أي قدرا ثم بين تعالى وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين.
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
فقال " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا " أي لأنهم جبناء مخذولون " ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة " أي ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة " وفيكم سماعون لهم " أي مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير. وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير " وفيكم سماعون. لهم " أي عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم. وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم بل هذا عام في جميع الأحوال والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين. وقال محمد بن إسحاق كان الذين استأذنوا فيما بلغني من ذوي الشرف منهم عبدالله بن أبي بن سلول والجد بن قيس وكانوا أشرافا في قومهم فثبطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده وكان في جند" قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم فقال " وفيكم سماعون لهم " ثم أخبر تعالى عن تمام علمه فقال " والله عليم بالظالمين " فأخبر بأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ولهذا قال تعالى " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا " فأخبر عن حالهم كيف يكون لو خرجوا ومع هذا ما خرجوا كما قال تعالى " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون " وقال تعالى " ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون " وقال تعالى " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما " والآيات في هذا كثيرة.