Translate

تفسير القرآن الكريم لجميع العلماء

ترجم الصفحه

[سورة اﻷنعام 132 - 137]


(وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ۚ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ * إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ ۖ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ۗ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا ۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ ۗ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ۖ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)
[سورة اﻷنعام 132 - 137]
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
قال: وقوله تعالى "ولكل درجات مما عملوا" أي ولكل عامل من طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل من عمله يبلغه الله إياها ويثيبه بها إن خيرا فخير وإن شرا فشر قلت: ويحتمل أن يعود قوله "ولكل درجات مما عملوا" أي من كافري الجن والإنس أي ولكل درجة في النار بحسبه كقوله "قال لكل ضعف" وقوله "الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون" "وما ربك بغافل عما يعملون" قال ابن جرير: أي وكل ذلك من عملهم يا محمد بعلم من ربك يحصيها ويثبتها لهم عنده ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه.
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ۚ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ
يقول تعالى "وربك" يا محمد "الغني" أي عن جميع خلقه من جميع الوجوه وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم "ذو الرحمة" أي وهو مع ذلك رحيم بهم كما قال تعالى "إن الله بالناس لرءوف رحيم" "إن يشأ يذهبكم" أي إذا خالفتم أمره "ويستخلف من بعدكم ما يشاء" أي قوم آخرين أي يعملون بطاعته "كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين" أي هو قادر على ذلك سهل عليه يسير لديه كما أذهب القرون الأولى وأتى بالذي بعدها كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين كما قال تعالى "إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا" وقال تعالى "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز". وقال تعالى "والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" وقال محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة قال: سمعت أبان بن عثمان يقول في هذه الآية "كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين" الذرية الأصل والذرية النسل.
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ ۖ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ
وقوله تعالى "إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين" أى أخبرهم يا محمد أن الذي يوعدون به من أمر المعاد كائن لا محالة "وما أنتم بمعجزين" أي ولا تعجزون الله بل هو قادر على إعادتكم وإن صرتم ترابا رفاتا وعظاما هو قادر لا يعجزه شيء وقال ابن أبي حاتم في تفسيرها: حدثنا أبي حدثنا محمد بن المصفى حدثنا محمد بن حسين عن أبي بكر بن أبي مريم عن عطاء بن أبي رباح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى والذي نفسي بيده إن ما توعدن لآت وما أنتم بمعجزين.
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ۗ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
وقوله تعالى "قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون" هذا تهديد شديد ووعيد أكيد أي استمروا على طريقتكم وناحيتكم إن كنتم تظنون أنكم على هدى فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي كقوله "وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "على مكانتكم" ناحيتكم "فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون" أي أتكون لي أو لكم وقد أنجز الله موعده لرسوله صلوات الله عليه أي فإنه تعالى مكنه في البلاد وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد وفتح له مكة وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه واستقر أمره على سائر جزيرة العرب وكذلك اليمن والبحرين وكل ذلك في حياته ثم فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته في أيام خلفائه رضي الله عنهم أجمعين كما قال الله تعالى "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوى عزيز" وقال "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار" وقال تعالى "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون وقال تعالى إخبارا عن رسله فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد" وقال تعالى "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا" الآية وقد فعل الله ذلك بهذه الأمة المحمدية وله الحمد والمنة أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا ۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ ۗ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ
هذا ذم وتوبيخ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعا وكفرا وشركا وجعلوا لله شركاء وجزءا من خلقه وهو خالق كل شيء سبحانه وتعالى ولهذا قال تعالى "وجعلوا لله مما ذرأ" أي مما خلق وبرأ "من الحرث" أي من الزرع والثمار "والأنعام نصيبا" أي جزءا وقسما "فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا" وقوله "فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم" قال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءا وللوثن جزءا فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئا جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن وإن سقط شيء من الحرث والثمر الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا: هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوه لله وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام فيجعلوه للأوثان ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله فقال الله تعالى "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا" الآية وهكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في الآية: كل شيء يجعلونه لله من ذبح يذبحونه لا يأكلونه أبدا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة وما كان للآلهة لم يذكروا اسم الله معه وقرأ الآية حتى بلغ "ساء ما يحكمون" أي ساء ما يقسمون فإنهم أخطأوا أولا القسم لأن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه وله الملك وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته لا إله غيره ولا رب سواه ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة لم يحفظوها بل جاروا فيها كقوله جل وعلا "ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون" وقال تعالى "وجعلوا له من عباده جزأ إن الإنسان لكفور مبين" وقال تعالى "ألكم الذكر و له الأنثى"
وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ۖ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ
يقول تعالى: وكما زينت الشياطين لهؤلاء أن يجعلوا لله مما ذرا من الحرث والأنعام نصيبا كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق ووأد البنات خشية العار قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم زينوا لهم قتل أولادهم. وقال مجاهد: شركاؤهم شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خشية العيلة. وقال السدي: أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات وأما ليردوهم فيهلكوهم وأما ليلبسوا عليهم دينهم أي فيخلطون عليهم دينهم ونحو ذلك قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقتادة وهذا كقوله تعالى "وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم. يتوارى من القوم من سوء ما بشر به" الآية وكقوله "وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت" وقد كانوا أيضا يقتلون الأولاد من الإملاق وهو الفقر أو خشية الإملاق أن يحصل لهم في تلف المال وقد نهاهم عن قتل أولادهم لذلك وإنما كان هذا كله من تزيين الشياطين وشرعهم ذلك قوله تعالى "ولو شاء الله ما فعلوه" أي كان هذا واقع بمشيئته تعالى وإرادته واختياره لذلك كونا وله الحكمة التامة في ذلك فلا يسأل عما يفعل وهم يسئلون "فذرهم وما يفترون" أي فدعهم واجتنبهم وما هم فيه فسيحكم الله بينك وبينهم.