Translate

تفسير القرآن الكريم لجميع العلماء

ترجم الصفحه

[سورة المائدة 18 - 23]


(وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ۖ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ۖ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
[سورة المائدة 18 - 23]

وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ۖ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ

قال تعالى ردا على اليهود والنصارى في كذبهم وافترائهم "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه" أي نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية وهو يحبنا ونقلوا عن كتابهم أن الله تعالى قال لعبده إسرائيل أنت ابني بكري فحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم وقالوا: هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام كما نقل النصارى من كتابهم أن عيسى قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم يعني ربي وربكم ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من النبوة ما ادعوها في عيسى عليه السلام وإنما أرادوا من ذلك معزتهم له به وحظوتهم عنده ولهذا قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه. قال الله تعالى رادا عليهم " قل فلم يعذبكم بذنوبكم " أي لو كنتم كما تدعون أبناؤه وأحباؤه فلم أعددت لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟ وقد قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يرد عليه فتلا عليه الصوفي هذه الآية " قل فلم يعذبكم بذنوبكم " وهذا الذي قاله حسن وله شاهد في المسند للإمام أحمد حيث قال: حدثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه وصبي في الطريق فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول ابني ابني وسعت فأخذته فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ولدها في النار قال فحفظهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" لا والله ما يلقي حبيبه في النار" تفرد به أحمد " بل أنتم بشر ممن خلق " أي لكم أسوة أمثالكم من بني آدم وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " أي هو فعال لما يريد لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب " ولله ملك السموات والأرض وما بينهما " أي الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه " وإليه المصير " أي المرجع والمآب إليه فيحكم في عباده ما يشاء وهو العادل الذي لا يجور وروى محمد بن إسحق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن آصا وبحري بن عمرو وشاس بن عدي فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد نحن أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى فأنزل الله فيهم " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه " إلى آخر الآية.رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ورويا أيضا من طريق أسباط عن السدي في قول الله " وقالت النصارى نحن أبناء الله وأحباؤه " أما قولهم " نحن أبناء الله " فإنهم قالوا: إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بكري من الولد فيدخلهم النار فيكونون فيها أربعين ليلة حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم ثم ينادي مناد أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل فأخرجوهم فذلك قولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودات.

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ۖ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

يقول تعالى مخاطبا أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين الذي لا نبي بعده ولا رسول بل هو المعقب لجميعهم ولهذا قال " على فترة من الرسل " أي بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى ابن مريم.وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة كم هي فقال أبو عثمان النهدي وقتادة في رواية عنه: كانت ستمائة سنة.ورواه البخاري عن سلمان الفارسي وعن قتادة خمسمائة وستون سنة وقال معمر عن بعض أصحابه: خمسمائة وأربعون سنة وقال الضحاك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة وذكر ابن عساكر في ترجمة عيسى عليه السلام عن الشعبي أنه قال: ومن رفع المسيح إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة والمشهور هو القول الأول وهو أنها ستمائة سنة ومنهم من يقول ستمائة وعشرون سنة ولا منافاة بينهما فإن القائل الأول أراد ستمائة سنة شمسية والآخر أراد قمرية وبين كل مائة سنة شمسية وبين القمرية نحو من ثلاث سنين ولهذا قال تعالى في قصة أهل الكهف " ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا " أى قمرية لتكميل ثلاثمائة الشمسية التي كانت معلومة لأهل الكتاب وكانت الفترة بين عيسى ابن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل وبين محمد خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن أولى الناس بابن مريم لأنا ليس بيني وبينه نبي " وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي يقال له خالد بن منان كما حكاه القضاعي وغيره والمقصود أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل وطموس من السبل وتغير الأديان وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان فكانت النعمة به أتم النعم والحاجة إليه أمر عمم فإن الفساد كان قد عم جميع البلاد والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد إلا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين من بعض أحبار اليهود وعباد النصارى والصابئين كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا هشام حدثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته وإن ربي أمرني أن أعلمكم مما جهلتم مما علمني في يومي هذا كل مال نحلته عبادي حلال لأني خلقت عبادي حنفاء كلهم لأن الشياطين أتتهم فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ثم إن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظانا ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشا فقلت: يا رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة فقال: استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك وأنفق عليهم فسننفق عليك وابعث جيشا نبعث خمسا أمثاله وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأهل الجنة ثلاثة:ذو سلطان مقسط موفق متصلا ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم ورجل عفيف فقير ذو عيال متصدق وأهل النار خمسة: الضيف الذي لا دين له والذين هم فيكم تبع أو تبعا- شك يحيى - لا يبتغون أهلا ولا مالا والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك وذكر البخل أو الكذب والشنظير الفاحش ثم رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي من غير وجه عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير.وفي رواية شعبة عن قتادة التصريح بسماع قتادة هذا الحديث من مطرف وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده أن قتادة لم يسمعه من مطرف وإنما سمعه من أربعة عنه ثم رواه هو عن روح عن عوف عن حكيم الأثرم عن الحسن قال: حدثني مطرف عن عياض بن حماد فذكره ورواه النسائي من حديث غندر عن عوف الأعرابي به والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله: لأن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا من بني إسرائيل وفي لفظ مسلم من أهل الكتاب فكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فهدى الخلائق وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور وتركهم على المحجة البيضاء والشريعة الغراء ولهذا قال تعالى "أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير" أي لئلا تحتجوا وتقولوا يا أيها الذين بدلوا دينهم وغيروه ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر فقد جاءكم بشير ونذير يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " والله على كل شيء قدير " قال ابن جرير معناه: إنى قادر على عقاب من عصاني وثواب من أطاعني.

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ

يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله موسى بن عمران عليه السلام فيما ذكر به قومه نعم الله عليهم وآلائه لديهم في جمعه لهم خير الدنيا والآخرة لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة فقال تعالى " وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء " أي كلما هلك نبي قام فيكم نبي من لدن أبيكم إبراهيم إلى من بعده وكذلك كانوا لا يزال فيهم الأنبياء يدعون إلى الله ويحذرون نقمته حتى ختموا بعيسى ابن مريم عليه السلام ثم أوحى الله إلى خاتم الأنبياء والرسل على الاطلاق محمد بن عبد الله المنسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام وهو أشرف من كل من تقدمه منهم صلى الله عليه وسلم " وجعلكم ملوكا " قال عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن الحكم أو غيره عن ابن عباس في قوله وجعلكم ملوكا قال: الخادم والمرأة والبيت وروى الحاكم في مستدركه من حديث الثوري أيضا عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: المرأة والخادم " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " قال: الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ ثم قال الحكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار سمي ملكا وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أنبأنا أبو هانئ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحنبلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين فقال عبدالله: ألك امرأة تأوي إليها قال نعم قال: ألك مسكن تسكنه قال نعم قال: فأنت من الأغنياء فقال: إن لك خادما فقال: فأنت من الملوك وقال الحسن البصرى: هل الملك إلا مركب من خادم ودار رواه ابن جرير ثم روي عن الحكم ومجاهد ومنصور وسفيان الثوري نحوا من هذا وحكاه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران وقال ابن شوذب كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له منزل وخادم واستؤذن عليه فهو ملك وقال قتادة: كانوا أول من اتخذ الخدم وقال السدي في قوله " وجعلكم ملوكا " قال يملك الرجل منكم نفسه وماله وأهله رواه ابن أبي حاتم وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا: وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقال ابن جرير: حدثنا الزبير بن بكار حدثنا أبو ضمرة- أنس بن عياض - سمعت زيد بن أسلم يقول: وجعلكم ملوكا فلا أعلم إلا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من كان له بيت وخادم فهو ملك " وهذا مرسل غريب وقال مالك: بيت وخادم وزوجة وقد ورد في الحديث من أصبح منكم معافى في جسده آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها وقوله " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " يعني عالمي زمانكم فإنهم كانوا أشرف الناس في زمانهم من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم كما قال " ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين " وقال تعالى إخبارا عن موسى لما قالوا اجعل لنا إلها كما لهم إله " قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين " والمقصود أنهم كانوا أفضل زمانهم وإلا فهذه الأمة أشرف منهم وأفضل عند الله وأكمل شريعة وأقوم منهاجا وأكرم نبيا وأعظم ملكا وأغزر أرزاقا وأكثر أموالا وأولادا وأوسع مملكة وأدوم عزا قال الله تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس " وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها عند الله عند قوله تعالى " كنتم خير أمة أخرجت للناس " من سورة آل عمران وروى ابن جرير عن ابن عباس وأبي مالك وسعيد بن جبير أنهم قالوا في قوله " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم فكأنهم أرادوا أن هذا الخطاب في قوله " وآتاكم ما لم يؤت أحدا " مع هذه الأمة والجمهور على أنه خطاب من موسى لقومه وهو محمول على عالمي زمانهم كما قدمنا وقيل المراد" وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " يعني بذلك ما كان تعالى نزله عليهم من المن السلوى ويظللهم به من الغمام وغير ذلك مما كان تعالى يخصهم به من خوارق العادات فالله أعلم.

يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ

ثم قال تعال مخبرا عن تحريض موسى عليه السلام لبني إسرائيل على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس الذي كان بأيديهم في زمان أبيهم يعقوب لما ارتحل هو وبنوه وأهله إلى بلاد مصر أيام يوسف عليه السلام ثم لم يزالوا بها حتى خرجوا زمان موسى فوجدوا فيهـا قوما من العمالقة الجبارين قد استحوذوا عليها وتملكوها فأمرهم رسول الله - موسى عليه السلام- بالدخول إليها وبقتال أعدائهم وبشرهم بالنصرة والظفر عليهم فنكلوا وعصوا وخالفوا أمره فعوقبوا بالذهاب في التيه والتمادي في سيرهم حائرين لا يدرون كيف يتوجهون إلى مقصد مدة أربعين سنة عقوبة لهم على تفريطهم في أمر الله تعالى فقال تعالى مخبرا عن موسى أنه قال: " يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة " أي المطهرة وقال سفيان الثوري: عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في قوله: " ادخلوا الأرض المقدسة " قال هى الطور وما حوله وكذا قال مجاهد وغير واحد وروى سفيان الثوري عن أبي سعد البقال عن عكرمة عن ابن عباس قال: هي أريحاء وكذا ذكر عن غير واحد من المفسرين وفي هذا نظر لأن أريحاء ليست هى المقصودة بالفتح ولا كانت في طريقهم إلى بيت المقدس وقد قدموا من بلاد مصر حين أهلك الله عدوهم فرعون اللهم إلا أن يكون المراد بأريحاء أرض بيت المقدس كما قاله السدي فيما رواه ابن جرير عنه: لا أن المراد بها هذه البلدة المعروفة في طرف الطور شرقي بيت المقدس وقوله تعالى " التي كتب الله لكم " أي التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل أنه وراثة من آمن منكم " ولا ترتدوا على أدباركم " أي ولا تنكلوا عن الجهاد " فتنقلبوا خاسرين".

قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ

"قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن تدخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون" أي اعتذروا بأن في هذه البلدة التي أمرتنا بدخولها وقتال أهلها قوما جبارين أي ذوي خلق هائلة وقوى شديدة وإننا لا نقدر على مقاومتهم ولا مصاولتهم ولا يمكننا الدخول إليها ما داموا فيها فإن يخرجوا منها دخلناها وإلا فلا طاقة لنا بهم وقد قال ابن جرير: حدثني عبد الكريم بن الهيثم حدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان قال: قال أبو سعيد قال عكرمة عن ابن عباس قال: أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين قال: فسار موسى بمن معه حتى نزل قريبا من المدينة وهي أريحاء فبعث إليهم اثنا عشر عينا من كل سبط منهم عين ليأتوه بخبر القوم قال فدخلوا المدينة فرأوا أمرا عظيما من هيئتهم وجسمهم وعظمهم فدخلوا حائطا لبعضهم فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه فجعل يجتني الثمار وينظر إلى آثارهم فتبعهم فكلما أصاب واحدا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة حتى التقط الاثنا عشر كلهم فجعلهم في كمه مع الفاكهة وذهب بهم إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال: لهم الملك قد رأيتم شأننا وأمرنا فاذهبوا فأخبروا صاحبكم قال فوجدوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم. وفي هذا الإسناد نظر وقال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس لما نزل موسى وقومه بعث منهم اثنا عشر رجلا وهم النقباء الذين ذكرهم الله فبعثهم ليأتوه بخبرهم فساروا فلقيهم رجل من الجبارين فجعلهم في كسائه فحمله حتى أتى بهم المدينة ونادى في قومه فاجتمعوا إليه فقالوا من أنتم؟ قالوا: نحن قوم موسى بعثنا نأتيه بخبركم فأعطوهم حبة من عنب تكفي الرجل فقالوا: لهم اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم هذا قدر فاكهتهم فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما رأوا فلما أمرهم موسى - عليه السلام- بالدخول عليهم وقتالهم قالوا: يا موسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون رواه ابن أبي حاتم ثم قال: حدثنا أبي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا يحيى بن أيوب عن يزيد بن الهادي حدثني يحيى بن عبد الرحمن قال: رأيت أنس بن مالك أخذ عصا فذرع فيها بشيء لا أدري كم ذرع ثم قاس بها في الأرض خمسين أو خمسا وخمسين ثم قال: هكذا طول العماليق. وقد ذكر كثير من المفسرين ههنا أخبارا من وضع بني إسرائيل في عظمة خلق هؤلاء الجبارين وأن منهم عوج بن عنق بنت آدم - عليه السلام- وأنه من طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع تحرير الحساب وهذا شيء يستحي من ذكره ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن " ثم ذكروا أن هذا الرجل كان كافرا وأنه كان ولد زنية وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته وهذا كذب وافتراء فإن الله تعالى ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " وقال تعالى " فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين " وقال تعالى " لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم " وإذا كان ابن نوح الكافر غرق فكيف يبدل عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية؟ هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق نظر والله أعلم.

قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

وقوله تعالى "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما" أي فلما نكل بنو إسرائيل عن طاعة الله ومتابعة رسول الله موسى - صلى الله عليه وسلم- حرضهم رجلان لله عليهما نعمة عظيمة وهما ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه وقرأ بعضهم " قال رجلان من الذين يخافون " أي ممن لهما مهابة وموضع من الناس ويقال إنهما: يوشع بن نون وكالب بن يوفنا قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطية والسدي والربيع بن أنس وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله فقالا " ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " أي إن توكلتم على الله واتبعتم أمره ووافقتم رسوله نصركم الله على أعدائكم وأيدكم وظفركم بهم ودخلتم البلد التي كتبها لكم فلم ينفع ذاك فيهم شيئا.