Translate

تفسير القرآن الكريم لجميع العلماء

ترجم الصفحه

[سورة يونس 26 - 33]

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۖ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ۚ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ۖ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ۚ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۖ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ * كَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)
[سورة يونس 26 - 33]

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح: الحسنى في الدار الآخرة كقوله تعالى "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" وقوله "وزيادة" هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وزيادة على ذلك أيضا ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القصور والحور والرضا عنهم وما أخفاه لهم من قرة أعين وأفضل من ذلك وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه لا يستحقونها بعملهم بل بفضله ورحمته وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم عن أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وعبدالله بن عباس وسعيد بن المسيب وعبدالرحمن بن أبي ليلى وعبدالرحمن بن سابط ومجاهد وعكرمة وعامر بن سعد وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم من السلف والخلف وقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن النبي صلي الله عليه وسلم فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد: حدثنا عفان أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن صهيب رضي الله عنهم أن رسول الله صلي الله عليه وسلم تلا هذه الآية "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" وقال "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون وما هو ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ - قال - فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم" وهكذا رواه مسلم وجماعة من الأئمة من حديث حماد بن سلمة به وقال ابن جرير: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني شبيب عن أبان بن أبي تميمة الهجيمي أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم "إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي يا أهل الجنة - بصوت يسمع أولهم وآخرهم - إن الله وعدكم الحسنى وزيادة فالحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الرحمن عز وجل" رواه أيضا ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر الهذلي عن أبي تميمة الهجيمي به وقال ابن جرير أيضا: حدثنا ابن حميد حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جرير عن عطاء عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" قال "النظر إلى وجه الرحمن عز وجل" وقال أيضا: حدثنا ابن عبدالرحيم حدثنا عمر بن أبي سلمة سمعت زهيرا عمن سمع أبا العالية حدثنا أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" قال "الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل" ورواه ابن أبي حاتم أيضا من حديث زهير به. وقوله تعالى "ولا يرهق وجوههم قتر" أي قتام وسواد في عرصات المحشر كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القترة والغبرة "ولا ذلة" أي هوان وصغار أي لا يحصل لهم إهانة في الباطن ولا في الظاهر بل هم كما قال تعالى في حقهم "فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا" أي نضرة في وجوههم وسرورا في قلوبهم جعلنا الله منهم بفضله ورحمته آمين.
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۖ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يضاعف لهم الحسنات ويزدادون على ذلك عطف بذكر حال الأشقياء فذكر تعالى عدله فيهم وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها لا يزيدهم على ذلك "وترهقهم" أي تعتريهم وتعلوهم ذلة من معاصيهم وخوفهم منها كما قال "وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل" الآية وقال تعالى "ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رءوسهم" الآيات. وقوله "ما لهم من الله من عاصم" أي مانع ولا واق يقيهم العذاب كقوله تعالى "يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر" وقوله "كأنما أغشيت وجوههم" الآية إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة كقوله تعالى "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون" وقوله تعالى "وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة" الآية.

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ۚ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ۖ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ

"ويوم نحشرهم" أي أهل الأرض كلهم من جن وإنس وبر وفاجر كقوله "وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا" "ثم نقول للذين أشركوا" الآية أي الزموا أنتم وهم مكانا معينا امتازوا فيه عن مقام المؤمنين كقوله تعالى "وامتازوا اليوم أيها المجرمون" وقوله "ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون" وفي الآية الأخرى "يومئذ يصدعون" أي يصيرون صدعين وهذا يكون إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء ولهذا قيل ذلك يستشفع المؤمنون إلى الله تعالى أن يأتي لفصل القضاء ويريحنا من مقامنا هذا وفي الحديث الآخر "نحن يوم القيامة على كوم فوق الناس" وقال الله تعالى في الآية الكريمة إخبارا عما يأمر به المشركين وأوثانهم يوم القيامة "مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم" الآية أنهم أنكروا عبادتهم وتبرءوا منهم كقوله "كلا سيكفرون بعبادتهم" الآية وقوله "إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا" وقوله "ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء" الآية وقوله في هذه الآية إخبارا عن قول الشركاء فيما راجعوا فيه عابديهم عند ادعائهم عبادتهم.

فَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ

أي ما كنا نشعر بها ولا نعلم بها وإنما كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم والله شهيد بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا ولا أمرناكم بها ولا رضينا منكم بذلك وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره ممن لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا ولم يأمرهم بذلك ولا رضي به ولا أراده بل تبرأ منهم في وقت أحوج ما يكونون إليه وقد تركوا عبادة الحي القيوم السميع البصير القادر على كل شيء العليم بكل شيء وقد أرسل رسله وأنزل كتبه آمرا بعبادته وحده لا شريك له ناهيا عن عبادة ما سواه كما قال تعالى "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة" وقال تعالى "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" وقال "واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون" والمشركون أنواع وأقسام قد ذكرهم الله في كتابه وبين أحوالهم وأقوالهم ورد عليهم فيما هم فيه أتم رد.

هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ۚ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۖ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ

أي في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما سلف من عملها من خير وشر كقوله تعالى "يوم تبلى السرائر" وقال تعالى "ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر" وقال تعالى "ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا" وقد قرأ بعضهم "هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت" وفسرها بعضهم بالقراءة وفسرها بعضهم بمعنى تتبع ما قدمت من خير وشر وفسرها بعضهم بحديث " لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت..." الحديث وقوله "وردوا إلى الله مولاهم الحق" أي ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل ففصلها وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار "وضل عنهم" أي ذهب عن المشركين "ما كانوا يفترون" أي ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه.

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ

يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية وإلاهيته فقال تعالى "قل من يرزقكم من السماء والأرض" أي من ذا الذي ينزل من السماء ماء المطر فيشق الأرض شقا بقدرته ومشيئته فيخرج منها "حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا" أإله مع الله ؟ فسيقولون الله "أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه" وقوله "أمن يملك السمع والأبصار" أي الذي وهبكم هذه القوة السامعة والقوة الباصرة ولو شاء لذهب بها ولسلبكم إياها كقوله تعالى "قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار" الآية وقال "قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم" الآية وقوله "ومن يخرج الحي من الميت من ويخرج الميت من الحي" أي بقدرته العظيمة ومنته العميمة; وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك وأن الآية عامة لذلك كله وقوله "ومن يدبر الأمر" أي من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون "يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن" فالملك كله العلوي والسفلي وما فيهما من ملائكة وإنس وجان فقيرون إليه عبيد له خاضعون لديه "فسيقولون الله" أي وهم يعلمون ذلك ويعترفون به "فقل أفلا تتقون" أي أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم.

فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ

الآية أي فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة "فماذا بعد الحق إلا الضلال" أي فكل معبود سواه باطل لا إله إلا هو واحد لا شريك له "فأنى تصرفون" أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة ما سواه وأنتم تعلمون أنه الرب الذي خلق كل شيء والمتصرف في كل شيء.

كَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

وقوله "كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا" الآية أي كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره مع أنهم يعترفون بأنه الخالق الرازق المتصرف في الملك وحده الذي بعث رسله بتوحيده فلهذا حقت عليهم كلمة الله أنهم أشقياء من ساكني النار كقوله "قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين".