Translate

تفسير القرآن الكريم لجميع العلماء

ترجم الصفحه

[سورة النساء 34 - 37]


(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا * وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا)
[سورة النساء 34 - 37]


الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا
يقول تعالى "الرجال قوامون على النساء" أي الرجل قيم على المرأة أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت "بما فضل الله بعضهم على بعض" أي لأن الرجال أفضل من النساء والرجل خير من المرأة ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال وكذلك الملك الأعظم لقوله صلى الله عليه وسلم "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" رواه البخاري من حديث عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبيه وكذا منصب القضاء وغير ذلك "وبما أنفقوا من أموالهم" أي من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهن في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فالرجل أفضل من المرأة في نفسه وله الفضل عليها والإفضال فناسب أن يكون قيما عليها كما قال الله تعالى "وللرجال عليهن درجة" الآية وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الرجال قوامون على النساء يعنى أمراء عليهن أي تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته وطاعته أن تكون محسنة لأهله حافظة لماله. وكذا قال مقاتل والسدي والضحاك وقال الحسن البصري: جاءت امرأة إلى النبي صلى تشكو أن زوجها لطمها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "القصاص" فأنزل الله عز وجل. الرجال قوامون على النساء" الآية. فرجعت بغير قصاص ورواه ابن جريج وابن أبي حاتم من طرق عنه وكذلك أرسل هذا الخبر قتادة وابن جريج والسدي أورد ذلك كله ابن جرير وقد أسنده ابن مردوية من وجه آخر فقال حدثنا أحمد بن علي النسائي حدثنا محمد بن هبة الله الهاشمي حدثنا محمد بن محمد الأشعث حدثنا موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد قال حدثني أبي عن جدي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الأنصار بامرأة له فقالت يا رسول الله إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري وإنه ضربها فأثر في وجهها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس له ذلك" فأنزل الله تعالى "الرجال قوامون على النساء" أى في الأدب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أردت أمرا وأراد الله غيره" وكذلك أرسل هذا الخبر قتادة وابن جريج والسدي أورد ذلك كله ابن جرير وقال الشعبي في هذه الآية الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم قال الصداق الذي أعطاها ألا ترى أنه لو قذفها لأعنها ولو قذفته جلدت وقوله تعالى فالصالحات أي من النساء "قانتات" قال ابن عباس وغير واحد يعني مطيعات لأزواجهن حافظات للغيب قال السدي وغيره أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله وقوله "بما حفظ الله" أي المحفوظ من حفظه الله قال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا أبو صالح حدثنا أبو معشر حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "الرجال قوامون على النساء" إلى آخرها ورواه ابن أبى حاتم عن يونس بن حبيب عن أبي داود الطيالسي عن محمد بن عبدالرحمن بن أبي ذئب عن سعيد المقبري به مثله سواء وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا ابن لهيعة عن عبدالله بن أبي جعفر أن ابن قارظ أخبره أن عبدالرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت" تفرد به أحمد من طريق عبدالله بن قارظ عن عبدالرحمن بن عوف وقوله تعالى "واللاتي تخافون نشوزهن" أي والنساء اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهن والنشوز هو الارتفاع فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها التاركة لأمره المعرضة عنه المبغضة له فمتى ظهر له منها إمارات النشوز فليعظها وليخوفها عقاب الله في عصيانه فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والإفضال وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها". وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح" رواه مسلم ولفظه "إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح" ولهذا قال تعالى "واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن" وقوله "واهجروهن في المضاجع" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الهجر هو أن لا يجامعها ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره وكذا قال غير واحد وزاد آخرون منهم السدي والضحاك وعكرمة وابن عباس في رواية ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها وقال علي بن أبي طلحة أيضا عن ابن عباس: يعظها فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع ولا يكلمها من غير أن يرد نكاحها وذلك عليها شديد وقال مجاهد والشعبي وإبراهيم ومحمد بن كعب ومقسم وقتادة: الهجر هو أن لا يضاجعها وقد قال أبو داود حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي مرة الرقاشي عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "فإن خفتم نشوزهن فاهجروهن في المضاجع" قال حماد يعنى النكاح وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: يا رسول الله ما حق امرأة أحدنا عليه قال "أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت" وقوله واضربوهن أي إذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران فلكم أن تضربوهن ضربا غير مبرح كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى أنه قال في حجة الوداع "واتقوا اللّه في النساء فإنهن عندكم عوان ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرج ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف" وكذا قال ابن عباس وغير واحد ضربا غير مبرح قال الحسن البصري يعني غير موثر قال الفقهاء هو أن لا يكسر فيها عضوا ولا يؤثر فيها شيئا وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يهجرها في المضجع فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربا غير مبرح ولا تكسر لها عظما فإن أقبلت وإلا قد أحل الله لك منها الفدية. وقال سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبدالله بن عبدالله بن عمر عن إياس بن عبدالله بن أبي ذئاب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تضربوا إماء الله" فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ذئرت النساء على أزواجهن فرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضربهن فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشتكين أزواجهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن ليس أولئك بخياركم" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وقال الإمام أحمد حدثنا سليمان بن داود يعني أبا داود الطيالسي حدثنا أبو عوانة عن داود الأودي عن عبدالرحمن السلمي عن الأشعث بن قيس قال ضفت عمر رضي الله عنه فتناول امرأته فضربها فقال يا أشعث احفظ عني ثلاثا حفظتهن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسأل الرجل فيما ضرب امرأته ولا تنم إلا على وتر ونسي الثالثة وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبدالرحمن بن مهدي عن أب عوانه عن داود الأودي به وقوله تعالى "فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا" أي إذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريده منها مما أباحه الله له منها فلا سبيل له عليها بعد ذلك وليس له ضربها ولا هجرانها وقوله إن الله كان عليا كبيرا تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب فإن الله العلي الكبير وليهن وهو منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن.
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا
ذكر الحال الأول وهو إذا كان النفور والنشوز من الزوجة. ثم ذكر الحال الثاني وهو إذا كان النفور من الزوجين فقال تعالى "وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها" وقال الفقهاء إذا وقع الشقاق بين الزوجين أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ينظر في أمرهما ويمنع الظالم منهما من الظلم فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة وثقة من قوم الرجل ليجتمعا فينظرا في أمرهما ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق وتشوف الشارع إلى التوفيق. ولهذا قال تعالى "إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما" وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أمر الله عز وجل أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ورجلا مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة وإن كانت المرأة هي المسيئة قصروها على زوجها ومنعوها النفقة فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره الآخر ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي لم يرض ولا يرث الكاره الراضي رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن عكرمة بن خالد عن ابن عباس قال بعثت أنا ومعاوية حكمين قال معمر بلغني أن عثمان بعثهما وقال لهما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا وقال أنبأنا ابن جريج حدثني ابن أبي مليكة أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت: تصير إلى وأنفق عليك فكان إذا دخل عليها قالت أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة فقال على يسارك في النار إذا دخلت فشدت عليها ثيابها فجاءت عثمان فذكرت له ذلك فضحك فأرسل ابن عباس ومعاوية فقال ابن عباس لأفرقن بينهما فقال معاوية ما كنت لأفرق بين شخصين من بني عبد مناف فأتياهما فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما فرجعا وقال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة قال شهدت عليا وجاءته امرأة وزوجها مع كل واحد منهما فئام من الناس فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما فقال علي للحكمين أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما فقالت المرأة رضيت بكتاب الله لي وعلي وقال الزوج أما الفرقة فلا فقال علي كذبت والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله عز وجل لك وعليك. رواه ابن أبي حاتم ورواه ابن جرير عن يعقوب عن ابن علية عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة عن علي مثله ورواه من وجه آخر عن ابن سيرين عن عبيدة عن علي به وقد أجمع العلماء على أن الحكمين لهما الجمع والتفرقة حتى قال إبراهيم النخعي إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو ثلاث فعلا وهو رواية عن مالك وقال الحسن البصري الحكمان يحكمان في الجمع لا في التفرقة وكذا قال قتادة وزيد بن أسلم وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود ومأخذهم قوله تعالى "إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما" ولم يذكر التفريق وأما إذا كانا وكيلين من جهة الحاكم فيحكمان وإن لم يرض الزوجان أو هما وكيلان من جهة الزوجين على قولين والجمهور على الأول لقوله تعالى "فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها" فسماهما حكمين ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه وهذا ظاهر الآية والجديد من مذهب الشافعي وهو قول أبي حنيفة. وأصحابه الثاني منهما قول على رضي الله عنه للزوج حين قال أما الفرقة فلا فقال كذبت حتى تقر بما أقرت به قالوا فلو كانا حكمين لما افتقر إلى إقرار الزوج والله أعلم. قال الشيخ أبو عمر بن عبدالبر وأجمع العلماء على أن الحكمين إذا اختلف قولهما فلا عبرة بقول الآخر وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان واختلفوا هل ينفذ قولهما في التفرقة ثم حكى عن الجمهور أنه ينفذ قولهما فيها أيضا من غير توكيل.
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا
يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له فانه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الآنات والحالات فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل "أتدري ما حق اللّه على العباد؟ "قال الله ورسوله أعلم قال "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ثم أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم" ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين فإن الله سبحانه جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود وكثيرا ما يقرن الله سبحانه بين عبادته والإحسان إلى الوالدين كقوله "أن اشكر لي ولوالديك" وكقوله "وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا" ثم عطف على الإحسان إليهما الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء كما جاء في الحديث "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم صدقة وصلة" ثم قال تعالى "واليتامى" وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم ثم قال "والمساكين" وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون من يقوم بكفايتهم فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم وسيأتي الكلام على الفقير والمسكين في سورة براءة وقوله والجار ذي القربى والجار الجنب" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس والجار ذي القربى يعني الذي بينك وبينه قرابة والجار الجنب الذي ليس بينك وبينه قرابة وكذا روى عن عكرمة ومجاهد وميمون بن مهران والضحاك لزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة وقال أبو إسحاق عن نوف البكالي في قوله "والجار ذي القربى" يعني الجار المسلم والجار الجنب" يعنى اليهودي والنصراني رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقال جابر الجعفي عن الشعي عن علي وابن مسعود والجار ذي القربى يعني المرأة وقال مجاهد أيضا في قوله "والجار الجنب يعني الرفيق في السفر وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار فلنذكر منها ما تيسر وبالله المستعان. "الحديث الأول" قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمر بن محمد بن زيد أنه سمع محمدا يحدث عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" أخرجاه في الصحيحين من حديث محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر به. "الحديث الثاني" قال الإمام أحمد حدثنا سفيان عن داود بن شابور عن مجاهد عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه". وروى أبو داود والترمذي نحوه من حديث سفيان ابن عيينة عن بشير أبي إسمعيل زاد الترمذي وداود بن شابور كلاهما عن مجاهد به ثم قال الترمذي حسن غريب من هذا الوجه وقد روي عن مجاهد وعائشة وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "الحديث الثالث" قال أحمد أيضا حدثنا عبدالله بن يزيد أخبرنا حيوة أخبرنا شرحبيل بن شريك أنه سمع أبا عبدالرحمن الجيلي يحدث عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره" ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد عن عبدالله بن المبارك عن حيوة بن شريح به وقال حسن غريب. "الحديث الرابع" قال الإمام أحمد حدثنا عبدالرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن أبيه عن عباية بن رفاعة عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يشبع الرجل دون جاره" تفرد به أحمد. "الحديث الخامس" قال الإمام أحمد حدثنا علي بن عبدالله حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان حدثنا محمد بن سعد الأنصاري سمعت أبا ظبية الكلاعي سمعت المقداد بن الأسود يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه "ما تقولون في الزنا" قالوا حرام حرمه الله ورسوله وهو حرام إلى يوم القيامة فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه. من أن يزنى بحليلة جاوه" قال "ما تقولون في السرقة" قالوا حرمها الله ورسوله فهي حرام إلى يوم القيامة قال "لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره" تفرد به أحمد وله شاهد في الصحيحين من حديث ابن مسعود: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" قلت ثم أى؟ قال "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" قلت ثم أي؟ قال "أن تزانى حليلة جارك". "الحديث السادس" قال الإمام أحمد حدثنا يزيد حدثنا هشام عن حفصة عن أبي العالية عن رجل من الأنصار قال: خرجت من أهلى أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا به قائم ورجل معه مقبل عليه فظننت أن لهما حاجة قال الأنصاري لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت أنثي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من طول القيام فلما انصرف قلت يا رسول الله لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام قال "وقد رأيته" قلت نعم قال "أتدري من هو؟ "قلت لا قال "ذاك جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" ثم قال "أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام". "الحديث السابع" قال عبد بن حميد في مسنده حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا أبن بكر يعني المدني عن جابر بن عبدالله قال: جاء رجل من العوالي ورسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام يصليان حيث يصلى على الجنائز فلما انصرف قال الرجل يا رسول الله من هذا الرجل الذي رأيت يصلى معك؟ قال "وقد رأيته؟" قال نعم قال "لقد رأيت خير ا كثيرا هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى رأيت أنه سيورثه" تفرد به من هذا الوجه وهو شاهد للذي قبله. "الحديث الثامن" وقال أبو بكر البزار حدثنا عبيدالله بن محمد أبو الربيع المحاربي حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك أخبرني عبدالرحمن بن الفضل عن عطاء الخراساني عن الحسن عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الجيران ثلاثة جار له حق واحد وهو أدنى الجيران حقا وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق وهو أفضل الجيران حقا. فأما الجار الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له له حق الجوار. وأما الجار الذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار. وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم" قال البزار لا نعلم أحدا روى عن عبدالرحمن بن الفضل إلا ابن أبي فديك. "الحديث التاسع" قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي عمران عن طلحة بن عبدالله عن عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال "إلى أقربها منك بابا" ورواه البخاري من حديث شعبة به. "الحديث العاشر" روى الطبراني وأبو نعيم عن عبدالرحمن فزاد قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فجعل الناس يتمسحون بوضوئه فقال "ما يحملكم على ذلك" قالوا حب الله ورسوله قال "من سره أن يحب الله ورسوله فليصدق الحديث إذا حدث وليؤد الأمانة إذا ائتمن" "الحديث الحادي عشر" قال أحمد حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أول خصمين يوم القيامة جاران" الحديث وقوله تعالى"والصاحب بالجنب" قال الثوري عن جابر الجعفي عن الشعبي عن علي وابن مسعود قالا: هي المرأة. وقال ابن أبي حاتم وروي عن عبدالرحمن بن أبي ليلى وإبراهيم النخعي والحسن وسعيد بن جبير في إحدى الروايات نحو ذلك وقال ابن عباس وجماعة: هو الضعيف وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة هو الرفيق في السفر وقال سعيد بن جبير هو الرفيق الصالح وقال زيد بن أسلم هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر. وأما ابن السبيل فعن ابن عباس وجماعة هو الضيف وقال مجاهد وأبو جعفر الباقر والحسن والضحاك ومقاتل هو الذي يمر عليك مجتازا في السفر وهذا أظهر وإن كان مراد القائل بالضيف المار في الطريق فهما سواء وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة وباللّه الثقة وعليه التكلان. وقوله تعالى "وما ملكت أيمانكم" وصية بالأرقاء لأن الرقيق ضعيف الحيلة أسير في أيدي الناس فلهذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يوصي أمته في مرض الموت يقول "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم" فجعل يرددها حتى ما يفيض بها لسانه وقال الإمام أحمد حدثنا إبراهيم بن أبي العباس حدثنا بقية حدثنا جبير بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول اللّه صلى "ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة وما أطعمت خادمك فهو لك صدقه" ورواه النسائي من حديث بقية وإسناده صحيح ولله الحمد. وعن عبدالله بن عمرو أنه قال لقهرمان له هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال لا: قال فانطلق فأعطهم فإن رسول اللّه صلى قال "كفى المرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم" رواه مسلم وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق". رواه مسلم أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي حره وعلاجه" أخرجاه ولفظه للبخاري ولمسلم "فليقعده معه فليأكل فإن كان الطعام مشفوها قليلا فليضع في يده أكله أو أكلتين" وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فيمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم" أخرجاه. وقوله تعالى "إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا أي مختالا في نفسه معجبا متكبرا فخورا" على الناس يرى أنه خير منهم فهو في نفسه كبير وهو عند الله حقير وعند الناس بغيض قال مجاهد في قوله إن الله لا يحب من كان مختالا يعني متكبرا فخورا يعني بعد ما أعطى وهو لا يشكر الله تعالى يعني يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه وهو قليل الشكر على ذلك وقال ابن جرير حدثني القاسم حدثنا الحسين حدثنا محمد بن كثير عن عبدالله بن واقد عن أبي رجاء الهروي قال: لا تجد سيء الملكة إلا وجدته مختالا فخورا وتلا وما ملكت أيمانكم الآية ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا وتلا "وبرأ بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا" وروى ابن أبي حاتم عن العوام بن حوشب مثله في المختال الفخور وقال حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم عن الأسود بن شيبان حدثنا يزيد بن عبدالله بن الشخير قال: قال مطرف كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه فلقيته فقلت يا أبا ذر بلغني أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله يحب ثلاثة يبغض ثلاثة قال: أجل فلا أخالك أكذب على خليلي ثلاثا؟ قلت من الثلاثة الذين يبغض الله؟ قال المختال الفخور أو ليس تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل ثم قرأ الآية إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا وحدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب عن خالد عن أبي تميمة عن رجل من بني الهجيم قال: قلت يا رسول الله أوصني قال: "إياك إسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة والله لا يحب المخيلة".
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا
يقول تعالى "ذاما الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به من بر الوالدين والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم من الأرقاء ولا يدفعون حق الله فيها ويأمرون الناس بالبخل أيضا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأي داء أدوأ من البخل". وقال "إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا". وقوله تعالى "ويكتمون ما آتاهم الله من فضله" فالبخيل جحود لنعمة الله ولا تظهر عليه ولا تبين لا في مأكله ولا في ملبسه ولا في إعطائه وبذله كما قال تعالى "إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد" أي بحاله وشمائله "وإنه لحب الخير لشديد" وقال ههنا ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ولهذا توعدهم بقوله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والكفر هو الستر والتغطية فالبخل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها فهو كافر لنعمة الله عليه. وفي الحديث "إن الله إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه" وفي الدعاء النبوي "واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها وأتممها علينا" وقد حمل بعض السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتمانهم ذلك ولهذا قال تعالى "وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا" رواه ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس وقاله مجاهد وغير واحد. ولا شك أن الآية محتملة لذلك والظاهر أن السياق في البخل بالمال وإن كان البخل بالعلم داخلا في ذلك بطريق الأولى فإن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء وكذلك الآية التي بعدها.