Translate

تفسير القرآن الكريم لجميع العلماء

ترجم الصفحه

[سورة البقرة 225 - 230]





(لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ۚ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۗ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۗ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)
[سورة البقرة 225 - 230]

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ

وقوله "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" أي لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية وهي التي لا يقصدها الحالف بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا تأكيد كما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن حميد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله" فهذا قاله لقوم حديثي عهد بجاهلية قد أسلموا وألسنتهم قد ألفت ما كانت عليه من الحلف باللات من غير قصد فأمروا أن يتلفظوا بكلمة الإخلاص كما تلفظوا بتلك الكلمة من غير قصد لتكون هذه بهذه ولهذا قال تعالى "ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" الآية وفي الآية الأخرى "بما عقدتم الأيمان" قال أبو داود: "باب لغو اليمن" حدثنا حميد بن مسعدة الشامي حدثنا حيان يعني ابن إبراهيم حدثنا إبراهيم يعني الصائغ عن عطاء: اللغو في اليمين قال قالت عائشة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله" ثم قال أبو داود رواه داود ابن الفرات عن إبراهيم الصائغ عن عطاء عن عائشة موقوفا. ورواه الزهري وعبدالملك ومالك بن مغول كلهم عن عطاء عن عائشة موقوفا أيضا. "قلت" وكذا رواه ابن جريج وابن أبي ليلى عن عطاء عن عائشة موقوفا. ورواه ابن جرير عن هناد عن وكيع وعبدة وأبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" لا والله وبلى والله ثم رواه عن محمد بن حميد عن سلمة عن ابن إسحق عن هشام عن أبيه عنها وبه عن ابن إسحق عن الزهري عن القاسم عنها وبه عن ابن إسحق عن ابن أبي نجيح عن عطاء عنها وقال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة في قوله "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" قالت هم القوم يتدارءون في الأمر فيقول هذا لا والله وبلى والله وكلا والله يتدارءون في الأمر لا تعقد عليه قلوبهم وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا هارون بن إسحق الهمداني حدثنا عبدة يعني ابن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قول الله "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" قالت: هو قول الرجل لا والله وبلى والله. وحدثنا أبي حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثني ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة قال: كانت عائشة تقول إنما اللغو في المزاحة والهزل وهو قول الرجل لا والله وبلى والله فذاك لا كفارة فيه إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله ثم قال ابن أبي حاتم وروي عن ابن عمر وابن عباس في أحد قوليه والشعبي وعكرمة في أحد قوليه وعروة بن الزبير وأبي صالح والضحاك في أحد قوليه وأبي قلابة والزهري نحو ذلك "الوجه الثاني" قرئ على يونس بن عبدالأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني الثقة عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها كانت تتأول هذه الآية يعني قوله "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" وتقول هو الشيء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه ثم قال: وروي عن أبي هريرة وابن عباس في أحد قوليه وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير ومجاهد في أحد قوليه وإبراهيم النخعي في أحد قوليه والحسن وزرارة بن أوفي وأبي مالك وعطاء الخراساني وبكر بن عبدالله أحد قولي عكرمة وحبيب بن أبي ثابت والسدي ومكحول ومقاتل وطاوس وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن سعيد وربيعة نحو ذلك وقال ابن جرير حدثنا محمد بن موسى الجرشي حدثنا عبدالله بن ميمون المرادي حدثنا عوف الأعرابي عن الحسن بن أبي الحسن قال مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوم ينتضلون يعني يرمون ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من أصحابه فقام رجل من القوم فقال أصبت والله وأخطأت والله فقال الذي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - للنبي - صلى الله عليه وسلم - حنث الرجل يا رسول الله قال "كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة" هذا مرسل حسن عن الحسن وقال ابن أبي حاتم وروي عن عائشة القولان جميعا حدثنا عصام بن رواد أنبأنا آدم حدثنا شيبان عن جابر عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت: هو قوله لا والله وبلى والله وهو يرى أنه صادق ولا يكون كذلك "أقوال أخر" قال عبدالرزاق عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينساه وقال زيد بن أسلم هو قول الرجل أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدا فهو هذا قال ابن أبي حاتم: وحدثنا علي بن الحسين حدثنا مسدد بن خالد حدثنا خالد حدثنا عطاء عن طاوس عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان وأخبرني أبي حدثنا أبو الجماهر حدثنا سعيد بن بشير حدثني أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله لك فذلك ما ليس عليك فيه كفارة وكذا روي عن سعيد بن جبير. وقال أبو داود "باب اليمين في الغضب" حدثنا محمد بن المنهال أنبأنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني عن القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب عز وجل ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك" وقوله "ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" قال: ابن عباس ومجاهد وغير واحد: هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب قال مجاهد وغيره: وهي كقوله تعالى "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" الآية "والله غفور حليم" أي غفور لعباده حليم عليهم.

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

الإيلاء الحلف فإذا حلف الرجل أن لا يجامع زوجته مدة فلا يخلو إما أن يكون أقل من أربعة أشهر أو أكثر منها فإن كانت أقل فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته وعليها أن تصبر وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آلى من نسائه شهرا فنزل لتسع وعشرين وقال "الشهر تسع وعشرون" ولهما عن عمر بن الخطاب نحوه فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر إما أن يفيء أي يجامع وإما أن يطلق فيجبره الحاكم على هذا وهذا لئلا يضر بها ولهذا قال تعالى: "للذين يؤلون من نسائهم" أي يحلفون على ترك الجماع من نسائهم فيه دلالة على أن الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور "تربض أربعة أشهر" أي ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق ولهذا قال "فإن فاءوا" أي رجعوا إلى ما كانوا عليه وهو كناية عن الجماع قاله ابن عباس ومسروق والشعبي وسعيد بن جبير وغير واحد ومنهم ابن جرير رحمه الله "فإن الله غفور رحيم" لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين وقوله "فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم" فيه دلالة لأحد قولي العلماء وهو القديم عن الشافعي أن المولي إذ فاء بعد الأربعة الأشهر أنه لا كفارة عليه ويعتضد بما تقدم في الحديث عند الآية التي قبلها عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فتركها كفارتها" كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي والذي عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشافعي أن عليه التكفير لعموم وجوب التكفير على كل حالف كما تقدم أيضا في الأحاديث الصحاح والله أعلم.

وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

وقوله "وإن عزموا الطلاق" فيه دلالة على أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي الأربعة أشهر كقول الجمهور من المتأخرين وذهب آخرون إلى أنه يقع بمضي أربعة أشهر تطليقة وهو مروي بأسانيد صحيحة عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وبه يقول ابن سيرين ومسروق والقاسم وسالم والحسن وأبو سلمة وقتادة وشريح القاضي وقبيصة بن ذؤيب وعطاء وأبو سلمة بن عبدالرحمن وسليمان بن طرخان التيمي وإبراهيم النخعي والربيع بن أنس والسدي ثم قيل إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر طلقة رجعية قاله سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام ومكحول وربيعة والزهري ومروان بن الحكم وقيل إنها تطلق طلقة بائنة روي عن علي وابن مسعود وعثمان وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وبه يقول عطاء وجابر بن زيد ومسروق وعكرمة والحسن وابن سيرين ومحمد بن الحنفية وإبراهيم وقبيصة بن ذؤيب وأبو حنيفة والثوري والحسن بن صالح فكل من قال إنما تطلق بمضي الأربعة أشهر أوجب عليها العدة إلا ما روي عن ابن عباس وأبي الشعثاء أنها إن كانت حاضت ثلاث حيض فلا عدة عليها وهو قول الشافعي والذي عليه الجمهور من المتأخرين أن يوقف فيطالب إما بهذا وإما بهذا ولا يقع عليها بمجرد مضيها طلاق وروى مالك عن نافع عن عبدالله بن عمر أنه قال: إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه طلاق وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف فإما أن يطلق وإما أن يفيء. وأخرجه البخاري وقال الشافعي رحمه الله: أخبرنا سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار قال: أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يوقف المولي. قال الشافعي: وأقل ذلك ثلاثة عشر ورواه الشافعي عن علي - رضي الله عنه - أنه يوقف المولي ثم قال وهكذا تقول وهو موافق لما رويناه عن عمر وابن عمر وعائشة وعثمان وزيد بن ثابت وبضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. هكذا قال الشافعي رحمه الله قال ابن جرير: حدثنا ابن أبي مريم حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن عمر عن سهيل ابن أبي صالح عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلا من الصحابة عن الرجل يولي من امرأته فكلهم يقول ليس عليه شيء حتى تمضي الأربعة الأشهر فيوقف فإن فاء وإلا طلق ورواه الدارقطني من طريق سهيل. "قلت" وهو يروى عن عمر وعثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة أم المؤمنين وابن عمر وابن عباس وبه يقول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وطاوس ومحمد بن كعب والقاسم وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم رحمهم الله وهو اختيار ابن جرير أيضا وهو قول الليث وإسحق بن راهويه وأبي عبيد وأبي ثور وداود وكل هؤلاء قالوا: إن لم يفئ ألزم بالطلاق فإن لم يطلق طلق عليه الحاكم والطلقة تكون رجعية له رجعتها في العدة وانفرد مالك بأن قال: لا يجوز له رجعتها حتى يجامعها في العدة وهذا غريب جدا. وقد ذكر الفقهاء وغيرهم في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر الأثر الذي رواه الإمام مالك بن أنس رحمه الله في الموطإ عن عبدالله بن دينار قال: خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول: تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا ضجيع ألاعبه فوالله لولا الله أني أراقبه لحرك من هذا السرير جوانبه فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنها كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر فقال عمر: لا أحبس أحدا من الجيوش أكثر من ذلك وقال محمد بن إسحق عن السائب بن جبير مولى ابن عباس وكان قد أدرك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما زلت أسمع حديث عمر أنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة وكان يفعل ذلك كثيرا إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها تقول: تطاول هذا الليل وازور جانبه وأرقني أن لا ضجيع ألاعبه ألاعبه طورا وطورا كأنما بدا قمرا في ظلمة الليل حاجبه يسر به من كان يلهو بقربه لطيف الحشا لا يحتويه أقاربه فوالله لولا الله لا شيء غيره لنقض من هذا السرير جوانبه ولكنني أخشى رقيبا موكلا بأنفاسنا لا يفتر الدهر كاتبه مخافة ربي والحياء يصدني وإكرام بعلي أن تنال مراكبه ثم ذكر بقية ذلك كما تقدم أو نحوه وقد روي هذا من طرق وهو من المشهورات.

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ۚ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

هذا أمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء بان يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء أي بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ثم تتزوج إن شاءت وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمة إذا طلقت فإنها تعتد عندهم بقرأين لأنها على النصف من الحرة والقرء لا يتبعض فكمل لها قرءان ولما رواه ابن جرير عن مظاهر بن أسلم المخزومي المدني عن القاسم عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ولكن مظاهر هذا ضعيف بالكلية وقال الحافظ الدارقطني وغيره الصحيح أنه من قول القاسم بن محمد نفسه ورواه ابن ماجه من طريق عطية العوفي عن ابن عمر مرفوعا قال: الدارقطني والصحيح ما رواه سالم ونافع عن ابن عمر قوله وهكذا روي عن عمر بن الخطاب قالوا: ولم يعرف بين الصحابة خلاف وقال: بعض السلف: بل عدتها عدة الحرة لعموم الآية ولأن هذا أمر جبلي فكان الحرائر والإماء في هذا سواء حكى هذا القول الشيخ أبو عمر بن عبدالبر عن محمد بن سيرين وبعض أهل الظاهر وضعفه وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو اليمان حدثنا إسماعيل يعني ابن عياش عن عمرو بن مهاجر عن أبيه أن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت: طلقت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل الله عز وجل حين طلقت أسماء العدة للطلاق فكانت أول من نزلت فيها العدة للطلاق يعني "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقراء ما هو على قولين: "أحدهما" أن المراد بها الأطهار وقال مالك في الموطإ عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها انتقلت حفصة بنت عبدالرحمن بن أبي بكر حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فذكرت ذلك لعمرة بنت عبدالرحمن فقالت صدق عروة وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا: إن الله تعالى يقول في كتابه "ثلاثة قروء" فقالت عائشة: صدقتم وتدرون ما الأقراء؟ إنما الأقراء الأطهار وقال مالك عن ابن شهاب سمعت أبا بكر بن عبدالرحمن يقول: ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك يريد قول عائشة وقال مالك عن نافع عن عبدالله بن عمر أنه كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها وقال مالك وهو الأمر عندنا وروي مثاله عن ابن عباس وزيد بن ثابت وسالم والقاسم وعروة وسليمان بن يسار وأبي بكر بن عبدالرحمن وأبان بن عثمان وعطاء ابن أبي رباح وقتادة والزهري وبقية الفقهاء السبعة وهو مذهب مالك والشافعي وغير واحد وداود وأبي ثور وهو رواية عن أحمد واستدلوا عليه بقوله تعالى "فطلقوهن لعدتهن" أي في الأطهار ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسبا دل على أنه أحد الأقراء الثلاثة المأمور بها ولهذا قال هؤلاء: إن المعتدة تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة وأقل مدة تصدق فيها المرأة في انقضاء عدتها اثنان وثلاثون يوما ولحظتان واستشهد أبو عبيد وغيره على ذلك بقول الشاعر وهو الأعشى: ففي كل عام أنت جاشم غزوة تشد لأقصاها عزيم عزائكا مورثة مالا وفي الأصل رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا يمدح أميرا من أمراء العرب آثر الغزو على المقام حتى ضاعت أيام الطهر من نسائه لم يواقعهن فيها. "القول الثاني" إن المراد بالأقراء الحيض فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة زاد آخرون وتغتسل منها وأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلاثة وثلاثون يوما ولحظة قال الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: كنا عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فجاءته امرأة فقالت: إن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين فجاءني وقد نزعت ثيابي وأغلقت بابي فقال عمر لعبدالله بن مسعود: أراها امرأته ما دون أن تحل لها الصلاة قال: وأنا أرى ذلك. وهكذا روي عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وابن مسعود ومعاذ وأبي بن كعب وأبي موسى الأشعري وابن عباس وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وإبراهيم ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير وعكرمة ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة والشعبي والربيع ومقاتل بن حيان والسدي ومكحول والضحاك وعطاء الخراساني أنهم قالوا: الأقراء: الحيض وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأصح الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل وحكى عنه الأثرم أنه قال الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون الأقراء الحيض وهو مذهب الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن بن صالح بن حي وأبي عبيد وإسحق بن راهويه ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي من طريق المنذر بن المغيرة عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها "دعي الصلاة أيام أقرائك" فهذا لو صح لكان صريحا في أن القرء هو الحيض ولكن المنذر هذا قال فيه أبو حاتم مجهول ليس بمشهور وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ابن جرير أصل القرء في كلام العرب الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركا بين هذا وهذا وقد ذهب إليه بعض الأصوليين والله أعلم. وهذا قول الأصمعي أن القرء هو الوقت. وقال أبو عمرو بن العلاء: العرب تسمي الحيض قرءا وتسمي الطهر قرءا وتسمي الطهر والحيض جميعا قرءا. وقال الشيخ أبو عمر بن عبدالبر: لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القرء يراد به الحيض ويراد به الطهر وإنما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين. وقوله "ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" أي من حبل أو حيض. قاله ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي والحكم بن عينية والربيع بن أنس والضحاك وغير واحد. وقوله "إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر" تهديد لهن على خلاف الحق ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن ويتعذر إقامة البينة غالبا على ذلك فرد الأمر إليهن وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق إما استعجالا منها لانقضاء العدة أو رغبة منها في تطويلها لما لها في ذلك من المقاصد فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان. وقوله "وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا" أي وزوجها الذي طلقها أحق بردها ما دامت في عدتها إذا كان مراده بردها الإصلاح والخير وهذا في الرجعيات فأما المطلقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية مطلقة بائن وإنما كان ذلك لما حصروا في الطلاق الثلاث فأما حال نزول هذه الآية. فكان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات صار للناس مطلقة بائن وغير بائن وإذا تأملت هذا تبين لك ضعف ما سلكه بعض الأصوليين من استشهادهم على مسألة عود الضمير هل يكون مخصصا لما تقدمه من لفظ العموم أم لا بهذه الآية الكريمة فإن التمثيل بها غير مطلق لما ذكروه والله أعلم. وقوله "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" أي ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته في حجة الوداع: "فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف" وفي حديث بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا قال "أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت" وقال وكيع عن بشير بن سليمان عن عكرمة عن ابن عباس قال: إنى لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة لأن الله يقول: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف". رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقوله "وللرجال عليهن درجة" أي في الفضيلة في الخلق والخلق والمنزلة وطاعة الأمر والإنفاق والقيام بالمصالح والفضل في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض بما أنفقوا من أموالهم". وقوله "والله عزيز حكيم" أي عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره حكيم في أمره وشرعه وقدره.

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله إلى ثلاث طلقات وأباح الرجعة في المرة والثنتين وأبانها بالكلية في الثالثة. فقال "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". قال أبو داود رحمه الله في سننه "باب نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث" حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثني علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" الآية وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك فقال "الطلاق مرتان" الآية. ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى عن إسحق بن إبراهيم عن علي بن الحسين به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا هرون بن إسحق حدثنا عبدة يعني ابن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه أن رجلا قال لامرأته: لا أطلقك أبدا ولا آويك أبدا قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله عز وجل "الطلاق مرتان" وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره من طريق جرير بن عبد الحميد وابن إدريس. ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون كلهم عن هشام عن أبيه قال: كان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها ما شاء ما دامت في العدة وإن رجلا من الأنصار غضب على امرأته فقال: والله لا آويك ولا أفارقك قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك ثم أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله عز وجل "الطلاق مرتان" قال: فاستقبل الناس الطلاق من كان طلق ومن لم يكن طلق وقد رواه أبو بكر بن مردويه من طريق محمد بن سليمان عن يعلى بن شبيب مولى الزبير عن هشام عن أبيه عن عائشة فذكره بنحو ما تقدم. ورواه الترمذي عن قتيبة عن يعلى بن شبيب به. ثم رواه عن أبي كريب عن ابن إدريس عن هشام عن أبيه مرسلا قال هذا أصح. ورواه الحاكم في مستدركه من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب عن يعلى بن شبيب به وقال: صحيح الإسناد ثم قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا إسماعيل بن عبدالله حدثنا محمد بن حميد حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس فقال: والله لأتركنك لا أيما ولا ذات زوج فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها ففعل ذلك مرارا فأنزل الله عز وجل فيه "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" فوقت الطلاق ثلاثا لا رجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره وهكذا روي عن قتادة مرسلا ذكره السدي وابن زيد وابن جرير كذلك واختار أن هذا تفسير هذه الآية قوله "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية بين أن تردها إليك ناويا الإصلاح بها والإحسان إليها وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك وتطلق سراحها محسنا إليها لا تظلمها من حقها شيئا ولا تضار بها. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في ذلك أي في الثالثة فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئا. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا يونس بن عبدالأعلى قراءة أخبرنا ابن وهب أخبرني سفيان الثوري حدثني إسماعيل بن سميع قال: سمعت أبا رزين يقول: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أرأيت قول الله عز وجل "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" أين الثالثة قال: "التسريح بإحسان" ورواه عبد بن حميد في تفسيره ولفظه أخبرنا يزيد بن أبي حكيم عن سفيان عن إسماعيل بن سميع أن أبا رزين الأسدي يقول: قال رجل يا رسول الله أرأيت قول الله "الطلاق مرتان" فأين الثالثة؟ قال "التسريح بإحسان الثالثة". ورواه الإمام أحمد أيضا. وهكذا رواه سعيد بن منصور عن خالد بن عبدالله عن إسماعيل بن زكريا وأبي معاوية عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين به وكذا رواه ابن مردويه أيضا من طريق قيس بن الربيع عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين به مرسلا ورواه ابن مردويه أيضا من طريق عبدالواحد بن زياد عن إسماعيل بن سميع عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم. فذكره ثم قال: حدثنا عبدالله بن أحمد بن عبدالرحيم حدثنا أحمد بن يحيى حدثنا عبيد الله بن جرير بن حبلة حدثنا ابن عائشة حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ذكر الله الطلاق مرتين فأين الثالثة؟ قال "إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". وقوله "ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا" أي لا يحل لكم أن تضاجروهن وتضيقوا عليهن ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه كما قال تعالى "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" فأما إن وهبته المرأة شيئا عن طيب نفس منها فقد قال تعالى "فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا" وأما إذا تشاقق الزوجان ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ولا حرج عليها في بذلها له ولا حرج عليه في قبول ذلك منها ولهذا قال تعالى "ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به" الآية. فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه فقد قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا عبدالوهاب "ح" وحدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية قالا جميعا: حدثنا أيوب عن أبي قلابة عمن حدثه عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة " وهكذا رواه الترمذي عن بندار عن عبدالوهاب بن عبد المجيد الثقفي به وقال حسن قال ويروى عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان ورواه بعضهم عن أيوب بهذا الإسناد ولم يرفعه: وقال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرحمن حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة قال: وذكر أبا أسماء وذكر ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة". وهكذا رواه أبو داود وابن ماجه وابن جرير من حديث حماد بن زيد به "طريق أخرى" قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا المعتمر بن سليمان عن ليث بن أبي إدريس عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس حرم الله عليها رائحة الجنة" وقال "المختلعات هن المنافقات". ثم رواه ابن جرير والترمذي جميعا عن أبي كريب عن مزاحم بن داود بن علية عن أبيه عن ليث هو ابن أبي سليم عن أبي الخطاب عن أبي زرعة عن أبي إدريس عن ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "المختلعات هن المنافقات" ثم قال الترمذي: غريب من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي "حديث آخر" قال ابن جرير: حدثنا أيوب حدثنا حفص بن بشر حدثنا قيس بن الربيع عن أشعث بن سوار عن الحسن عن ثابت بن يزيد عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات" غريب من هذا الوجه ضعيف "حديث آخر" قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا أيوب عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "المتخلعات والمنتزعات هن المنافقات" "حديث آخر" قال ابن ماجه: حدثنا بكر بن خلف أبو بشر حدثنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى بن ثوبان عن عمه عمارة بن ثوبان عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لا تسأل امرأة زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما". ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية واحتجوا بقوله تعالى "ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله" قالوا: فلم يشرع الخلع إلا في هذه الحالة فلا يجوز في غيرها إلا بدليل والأصل عدمه وممن ذهب إلى هذا ابن عباس وطاوس وإبراهيم وعطاء والحسن والجمهور حتى قال مالك والأوزاعي: لو أخذ منها شيئا وهو مضار لها وجب رده إليها وكان الطلاق رجعيا قال مالك: وهو الأمر الذي أدركت الناس عليه وذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجوز الخلع في حال الشقاق وعند الاتفاق بطريق الأولى والأحرى وهذا قول جميع أصحابه قاطبة وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستذكار له عن بكر بن عبدالله المزني أنه ذهب إلى أن الخلع منسوخ بقوله "وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا". ورواه ابن جرير عنه وهذا قول ضعيف ومأخذ مردود على قائله وقد ذكر ابن جرير رحمه الله أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شماس وامرأته حبيبة بنت عبدالله بن أبي ابن سلول ولنذكر طرق حديثها واختلاف ألفاظه: قال الإمام مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبدالرحمن بن سعيد بن زرارة أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصاري أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وأن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - "من هذه؟" قلت: أنا حبيبة بنت سهل فقال "ما شأنك" فقالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر" فقالت حبيبة: يا رسول الله كل ما أعطاني عندي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "خذ منها" فأخذ منها وجلست في أهلها. وهكذا رواه الإمام أحمد عن عبدالرحمن بن مهدي عن مالك بإسناده مثله ورواه أبو داود عن القعنبي عن مالك والنسائي عن محمد بن مسلمة عن ابن القاسم عن مالك "حديث آخر" عن عائشة. قال أبو داود وابن جرير: حدثنا محمد بن معمر حدثنا أبو عامر حدثنا أبو عمرو السدوسي عن عبدالله بن أبي بكر عن عمرة عن عاثشة أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس فضربها فانكسر بعضها فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الصبح فاشتكته إليه فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثابتا فقال "خذ بعض مالها وفارقها" قال: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ قال "نعم" قال: إني أصدقتها حديقتين فهما بيدها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "خذهما وفارقها" ففعل وهذا لفظ ابن جرير وأبو عمرو السدوسي هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام "حديث آخر" فيه عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال البخاري: حدثنا أزهر بن جميل أخبرنا عبدالوهاب الثقفي حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله: ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكن أكره الكفر في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتردين عليه حديقته" قالت: نعم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" وكذا رواه النسائي عن أزهر بن جميل بإسناده مثله ورواه البخاري أيضا به عن إسحق الواسطي عن خالد هو ابن عبدالله الطحاوي عن خالد هو ابن مهران الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس به نحوه. وهكذا رواه البخاري أيضا من طرق عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس وفي بعضها أنها قالت: لا أطيقه يعني بغضا وهذا الحديث من أفراد البخاري من هذا الوجه. ثم قال حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة أن جميلة رضي الله عنها ـ كذا قال والمشهور أن اسمها حبيبة كما تقدم ـ لكن قال الإمام أبو عبدالله بن بطة: حدثني أبو يوسف يعقوب بن يوسف الطباخ حدثنا أبو القاسم عبدالله بن محمد بن عبد العزيز البغوي حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثني عبدالأعلى حدثنا سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: والله ما أعتب على ثابت بن قيس في دين ولا خلق ولكنني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "تردين عليه حديقته؟" قالت: نعم. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ ما ساق ولا يزداد وقد رواه ابن مردويه في تفسيره عن موسى بن هرون حدثنا أزهر بن مروان حدثنا عبدالأعلى مثله وهكذا رواه ابن ماجه عن أزهر بن مروان بإسناده مثله سواء وهو إسناد جيد مستقيم وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا الحسين بن واقد عن ثابت عن عبدالله بن رباح عن جميلة بنت عبدالله بن أبي ابن سلول أنها كانت تحت ثابت بن قيس فنشزت عليه فأرسل إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال "يا جميلة ما كرهت من ثابت؟" قالت: والله ما كرهت منه دينا ولا خلقا إلا أني كرهت دمامته فقال لها: "أتردين عليه الحديقة" قالت نعم فردت الحديقة وفرق بينهما. وقال ابن جرير أيضا حدثنا محمد بن عبدالأعلى حدثنا المعتمر بن سليمان قال قرأت على فضيل عن أبي جرير أنه سأل عكرمة هل كان للخلع أصل؟ قال: كان ابن عباس يقول إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبدالله بن أبي أنها أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا إنى رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها فقال زوجها يا رسول الله إني قد أعطيتها أفضل مالي حديقة لي فإن ردت علي حديقتي قال "ما تقولين"؟ قالت: نعم وإن شاء زدته. قال ففرق بينهما "حديث آخر" قال ابن ماجه: حدثنا أبو كريب حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس وكان رجلا دميما فقالت: يا رسول الله والله لولا مخافة الله إذا دخل علي بصقت في وجهه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أتردين عليه حديقته؟" قالت نعم فردت عليه حديقته قال ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في أنه هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها فذهب الجمهور إلى جواز ذلك لعموم قوله تعالى "فلا جناح عليهما فيما افتدت به" وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية أخبرنا أيوب عن كثير مولى ابن سمرة أن عمر أتي بامرأة ناشز فأمر بها إلى بيت كثير الزبل ثم دعا بها فقال كيف وجدت فقالت ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي كنت حبستني فقال: لزوجها اخلعها ولو من قرطها ورواه عبدالرزاق عن معمر عن أيوب عن كثير مولى ابن سمرة فذكر مثله وزاد فحبسها فيه ثلاثة أيام قال: سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن حميد بن عبدالرحمن أن امرأة أتت عمر بن الخطاب فشكت زوجها فأباتها في بيت الزبل فلما أصبحت قال كيف وجدت مكانك؟ قالت ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة. فقال خذ ولو عقاصها وقال البخاري: وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها وقال: عبدالرزاق أخبرنا معمر عن عبدالله بن محمد بن عقيل أن الربيع بنت معوذ ابن عفراء حدثته قالت: كان لي زوج يقل علي الخير إذا حضرني ويحرمني إذا غاب عني قالت فكانت مني زلة يوما فقلت: أختلع منك بكل شيء أملكه قال: نعم قالت ففعلت قالت فخاصم عمي معاذ ابن عفراء إلى عثمان بن عفان فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه أو قالت ما دون عقاص الرأس ومعنى هذا أنه يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير ولا يترك لها سوى عقاص شعرها وبه يقول ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي وقبيصة بن ذؤيب والحسن بن صالح وعثمان البتي وهذا مذهب مالك والليث والشافعي وأبي ثور واختاره ابن جرير وقال أصحاب أبي حنيفة إن كان الإضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها ولا يجوز الزيادة عليه فإن ازداد جاز في القضاء وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئا فإن أخذ جاز في القضاء. وقال الإمام أحمد وأبو عبيد وإسحاق بن راهويه لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء وعمرو بن شعيب والزهري وطاوس والحسن والشعبي وحماد بن أبي سليمان والربيع بن أنس. وقال معمر والحكم كان علي يقول لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها وقال: الأوزاعي القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها. "قلت" ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في قصة ثابت بن قيس فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ منها الحديقة ولا يزداد وبما روى عبد بن حميد حيث قال: أخبرنا قبيصة عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها يعني المختلعة وحملوا معنى الآية على معنى "فلا جناح عليهما فيما افتدت به" أي من الذي أعطاها لتقدم قوله "ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به" أي من ذلك وهكذا كان يقرؤها الربيع بن أنس "فلا جناح عليهما فيما افتدت به" منه رواه ابن جرير ولهذا قال بعده "تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون" "فصل" قال الشافعي: اختلف أصحابنا في الخلع فأخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس في رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه بعد يتزوجها إن شاء لأن الله تعالى يقول "الطلاق مرتان" قرأ إلى "أن يتراجعا" قال الشافعي: وأخبرنا سفيان عن عمرو عن عكرمة قال: كل شيء أجازه المال فليس بطلاق وروى غير الشافعي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله فقال: رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه أيتزوجها؟ قال: نعم ليس الخلع بطلاق ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها والخلع فيما بين ذلك فليس الخلع بشيء ثم قرأ "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" وقرأ "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما من أن الخلع ليس بطلاق وإنما هو فسخ هو رواية عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان وابن عمر وهو قول طاوس وعكرمة وبه يقول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وداود بن علي الظاهري وهو مذهب الشافعي في القديم وهو ظاهر الآية الكريمة والقول الثاني في الخلع إنه طلاق بائن إلا أن ينوي أكثر من ذلك قال مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن جهمان مولى الأسلميين عن أم بكر الأسلمية أنها اختلعت من زوجها عبدالله بن خالد بن أسيد فأتيا عثمان بن عفان في ذلك فقال تطليقة إلا أن تكون سميت شيئا فهو ما سميت قال الشافعي: ولا أعرف جهمان وكذا ضعف أحمد بن حنبل هذا الأثر والله أعلم. وقد روي نحوه عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وبه يقول سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وشريح والشعبي وإبراهيم وجابر بن زيد وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي وأبو عثمان البتي والشافعي في الجديد غير أن الحنفية عندهم أنه متى نوى المخالع بخلعه تطليقة أو اثنتين أو طلق فهو واحدة بائنة وإن نوى ثلاثا فثلاث وللشافعي قول آخر في الخلع وهو أنه متى لم يكن بلفظ الطلاق وعري عن البينة فليس هو بشيء بالكلية. "مسألة" وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه في رواية عنهما وهي المشهورة إلى أن المختلعة عدتها عدة المطلقة بثلاثة قروء إن كانت ممن تحيض. وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وبه يقول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعروة وسالم وأبو سلمة وعمر بن عبد العزيز وابن شهاب والحسن والشعبي وإبراهيم النخعي وأبو عياض وخلاس بن عمر وقتادة وسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبو العبيد قال الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم ومأخذهم في هذا أن الخلع طلاق فتعتد كسائر المطلقات والقول الثاني أنها تعتد بحيضة واحدة تستبرئ بها رحمها قال ابن أبي شيبة حدثنا يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر أن الربيع اختلعت من زوجها فأتى عمها عثمان - رضي الله عنه - فقال تعتد بحيضة قال: وكان ابن عمر يقول تعتد ثلاث حيض حتى قال هذا عثمان فكان ابن عمر يفتي به ويقول عثمان خيرنا وأعلمنا. وحدثنا عبدة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: عدة المختلعة حيضة. وحدثنا عبدالرحمن بن محمد المحاربي عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال: عدتها حيضة وبه يقول عكرمة وأبان بن عثمان وكل من تقدم ذكره ممن يقول إن الخلع فسخ يلزمه القول بهذا واحتجوا لذلك بما رواه أبو داود والترمذي حيث قال كل منهما حدثنا محمد بن عبدالرحيم البغدادي حدثنا علي بن يحيى أخبرنا هشام بن يوسف عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعتد بحيضة ثم قال الترمذي حسن غريب وقد رواه عبدالرزاق عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة مرسلا "حديث آخر". قال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا الفضل بن موسى عن سفيان حدثنا محمد بن عبدالرحمن وهو مولى آل طلحة عن سليمان بن يسار عن الربيع بنت معوذ ابن عفراء أنها اختلعت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أمرت أن تعتد بحيضة قال الترمذي: الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة "طريق أخرى". قال ابن ماجه: حدثنا علي بن سلمة النيسابوري حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن ابن إسحق أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن الربيع بنت معوذ ابن عفراء قال: قلت لها حدثيني حديثك قالت: اختلعت من زوجي ثم جئت عثمان فسألت عثمان ماذا علي من العدة؟ قال: لا عدة عليك إلا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين عنده حتى تحيضي حيضة قالت: وإنما تبع في ذلك قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مريم المغالية وكانت تحت ثابت بن قيس فاختلعت منه وقد روى ابن لهيعة عن أبي الأسود عن أبي سلمة ومحمد بن عبدالرحمن بن ثوبان عن الربيع بنت معوذ قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يأمر امرأة ثابت بن قيس حين اختلعت منه أن تعتد بحيضة. "مسألة" وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء لأنها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء. وروي عن عبدالله بن أبي أوفى وماهان الحنفي وسعيد بن المسيب والزهري أنهم قالوا: إن رد إليها الذي أعطاها جاز له رجعتها في العدة بغير رضاها وهو اختيار أبي ثور رحمه الله. وقال سفيان الثوري: إن كان الخلع بغير لفظ الطلاق فهو فرقة ولا سبيل له عليها وإن كان يسمي طلاقا فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدة وبه يقول داود بن علي الظاهري واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر عن فرقة أنه لا يجوز له ذلك كما لا يجوز لغيره وهو قول شاذ مردود. "مسألة" وهل له أن يوقع عليها طلاقا آخر في العدة؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء: "أحدها" ليس له ذلك لأنها قد ملكت نفسها وبانت منه وبه يقول ابن عباس وابن الزبير وعكرمة وجابر بن زيد والحسن البصري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور "والثاني" قال مالك: أن أتبع الخلع طلاقا من غير سكوت بينهما لم يقع قال ابن عبد البر: وهذا يشبه ما روي عن عثمان - رضي الله عنه - والثالث أنه يقع عليها الطلاق بكل حال ما دامت في العدة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي وبه يقول سعيد بن المسيب وشريح وطاوس وإبراهيم والزهري والحاكم والحكم وحماد بن أبي سليمان وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي الدرداء قال ابن عبد البر: وليس ذلك بثابت عنهما. وقوله "تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون" أي هذه الشرائع التي شرعها لكم هي حدوده فلا تتجاوزوها كما ثبت في الحديث الصحيح "إن الله حد حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تضيعوها وحرم محارم فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تسألوا عنها" وقد يستدل بهذه الآية من ذهب إلى أن مع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم وإنما السنة عندهم أن يطلق واحدة لقوله "الطلاق مرتان" ثم قال "تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون" ويقوون ذلك بحديث محمود بن لبيد الذي رواه النسائي في سننه حيث قال: حدثنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم" حتى قام رجل فقال يا رسول الله ألا أقتله؟ ـ فيه انقطاع .

فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۗ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۗ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

وقوله تعالى "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" أي أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين فإنها تحرم عليه "حتى تنكح زوجا غيره" أي حتى يطأها زوج آخر في نكاح صحيح فلو وطئها واطئ في غير نكاح ولو في ملك اليمين لم تحل للأول لأنه ليس بزوج وهكذا لو تزوجت ولكن لم يدخل بها الزوح لم تحل للأول واشتهر بين كثير من الفقهاء أن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه يقول: يحصل المقصود من تحليلها للأول بمجرد العقد على الثاني وفى صحته عنه نظر على أن الشيخ أبا عمر بن عبدالبر قد حكاه عنه في الاستذكار والله أعلم. وقد قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله: حدثنا ابن بشار حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن علقمة بن مرثد عن سالم بن رزين عن سالم بن عبدالله عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة فيتزوجها زوج آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها أترجع إلى الأول؟ قال "لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها" هكذا وقع في رواية ابن جرير وقد رواه الإمام أحمد فقال: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد قال: سمعت سالم بن رزين يحدث عن سالم بن عبدالله بن عمر عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الرجل تكون له المرأة فيطلقها ثم يتزوجها رجل فيطلقها قبل أن يدخل بها فترجع إلى زوجها الأول فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "حتى تذوق العسيلة" وهكذا رواه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس وابن ماجه عن محمد بن بشار بندار كلاهما عن محمد بن جعفر غندر عن شعبة به كذلك فهذا من رواية سعيد بن المسيب عن ابن عمر مرفوعا على خلاف ما يحكى عنه فبعيد أن يخالف ما رواه بغير مستند والله أعلم. وقد روى أحمد أيضا والنسائي وابن جرير هذا الحديث من طريق سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن رزين بن سليمان الأحمدي عن ابن عمر قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا فيتزوجها آخر فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها قبل أن يدخل بها هل تحل للأول؟ قال: "لا حتى تذوق العسيلة" وهذا لفظ أحمد وفي رواية لأحمد سليمان بن رزين "حديث آخر" قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا محمد بن دينار حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثا فتزوجت بعده رجلا فطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته". وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن إبراهيم الأنماطي عن هشام بن عبدالملك حدثنا محمد بن دينار فذكره. "قلت" ومحمد بن دينار بن صندل أبو بكر الأزدي ثم الطائي البصري ويقال له ابن أبي الفرات اختلفوا فيه فمنهم من ضعفه ومنهم من قواه وقبله. وحسن له وذكر أبو داود أنه تغير قبل موته فالله أعلم. "حديث آخر" قال ابن جرير: حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني حدثنا أبي حدثنا شيبان حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي الحارث الغفاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا فتتزوج غيره فيطلقها قبل أن يدخل بها فيريد الأول أن يراجعها قال: "لا حتى يذوق الآخر عسيلتها". ثم رواه من وجه آخر عن شيبان وهو ابن عبدالرحمن به ـ وأبو الحارث غير معروف . "حديث آخر" قال ابن جرير: حدثنا يحيى عن عبيد الله حدثنا القاسم عن عائشة أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت زوجا فطلقها قبل أن يمسها فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتحل للأول؟ فقال "لا حتى يذوق من عسيلتها كما ذاق الأول" أخرجه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن عبيد الله بن عمر العمري عن القاسم بن أبي بكير عن عمته عائشة به "طريق أخرى" قال ابن جرير: حدثنا عبيد الله بن إسماعيل الهباري وسفيان بن وكيع وأبو هشام الرفاعي قالوا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته فتزوجت رجلا غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل لزوجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته". وكذا رواه أبو داود عن مسدد والنسائي عن أبي كريب كلاهما عن أبي معاوية وهو محمد بن حازم الضرير به "طريق أخرى" قال مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن العلاء الهمداني حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها فتتزوج رجلا آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول؟ قال:"لا حتى يذوق عسيلتها" قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو فضيل وحدثنا أبو كريب حدثنا أبو معاوية جميعا عن هشام بهذا الإسناد وقد رواه البخاري من طريق أبي معاوية محمد بن حازم عن هشام به وتفرد به مسلم من الوجهين الآخرين. وهكذا رواه ابن جرير من طريق عبدالله بن المبارك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا بنحوه أو مثله ـ وهذا إسناد جيد ـ وكذا رواه ابن جرير أيضا من طريق علي بن زيد بن جدعان عن امرأة أبيه أمينة أم محمد عن عائشة عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بمثله وهذا السياق مختصر من الحديث الذي رواه البخاري حدثنا عمرو بن علي حدثنا يحيى عن هشام بن عروة حدثني أبي عن عائشة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له أنه لا يأتيها وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب فقال: "لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" تفرد به من هذا الوجه "طريق أخرى" قال الإمام أحمد حدثنا عبدالأعلى عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا وأبو بكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن رفاعة طلقني البتة وإن عبدالرحمن بن الزبير تزوجني وإنما عنده مثل الهدبة وأخذت هدبة من جلبابها وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له فقال أبو بكر: ألا تنهي هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما زاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التبسم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". وهكذا رواه البخاري من حديث عبدالله بن المبارك ومسلم من حديث عبدالرزاق والنسائي من حديث يزيد بن زريع ثلاثتهم عن معمر به وفي حديث عبدالرزاق عند مسلم أن رفاعة طلقها آخر ثلاث تطليقات. وقد رواه الجماعة إلا أبا داود من طريق سفيان بن عيينة والبخاري من طريق عقيل ومسلم من طريق يونس بن يزيد وعنده آخر ثلاث تطليقات والنسائي من طريق أيوب بن موسى ورواه صالح بن أبي الأخضر كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة به. وقال مالك عن المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبدالرحمن بن الزبير أن رفاعة بن سموأل طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة فنكحت عبدالرحمن بن الزبير فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ففارقها فأراد رفاعة بن سموأل أن ينكحها وهو زوجها الأول الذي كان طلقها فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهاه عن تزويجها وقال "لا تحل لك حتى يذوق العسيلة". هكذا رواه أصحاب الموطأ عن مالك وفيه انقطاع وقد رواه إبراهيم بن طهمان وعبدالله بن وهب عن مالك عن رفاعة عن الزبير بن عبدالرحمن بن الزبير عن أبيه فوصله. "فصل" والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبا في المرأة قاصدا لدوام عشرتها كما هو المشروع من التزويج واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطئا مباحا فلو وطأها وهي محرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء أو الزوج صائم أو محرم أو معتكف لم تحل للأول بهذا الوطء وكذا لو كان الزوج الثاني ذميا لم تحل للمسلم بنكاحه لأن أنكحة الكفار باطلة عنده واشترط الحسن البصري فيما حكاه عنه الشيخ أبو عمر بن عبدالبر أن ينزل الزوج الثاني وكأنه تمسك بما فهمه من قوله عليه الصلاة والسلام "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" ويلزم على هذا أن تنزل المرأة أيضا وليس المراد بالعسيلة المني لما رواه الإمام أحمد والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "ألا إن العسيلة الجماع" فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة. ذكر الأحاديث الواردة في ذلك "الحديث الأول" عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال الإمام أحمد: حدثنا الفضل بن دكين حدثنا سفيان عن أبي قيس عن الهزيل عن عبدالله قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والمحلل والمحلل له وآكل الربا وموكله. ثم رواه أحمد والترمذي والنسائي من غير وجه عن سفيان وهو الثوري عن أبي قيس واسمه عبدالرحمن بن ثروان الأودي عن هذيل بن شرحبيل الأودي عن عبدالله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح قال: والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة منهم عمر وعثمان وابن عمر وهو قول الفقهاء من التابعين ويروى ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس "طريق أخرى" عن ابن مسعود قال الإمام أحمد: حدثنا زكريا بن عدي حدثنا عبيد الله عن عبدالكريم عن أبي الواصل عن ابن مسعود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لعن الله المحلل والمحلل له" "طريق أخرى". روى الإمام أحمد والنسائي عن حديث الأعمش عن عبدالله بن مرة عن الحارث الأعور عن عبدالله بن مسعود قال: آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه إذا علموا به والواصلة والمستوصلة ولاوي الصدقة والمتعدي فيها والمرتد عن عقبيه أعرابيا بعد هجرته والمحلل والمحلل له ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة. "الحديث الثاني" عن علي - رضي الله عنه - قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزاق أخبرنا سفيان عن جابر عن الشعبي عن الحارث عن علي قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والواشمة والمستوشمة للحسن ومانع الصدقة والمحلل والمحلل له وكان ينهى عن النوح وكذا رواه عن غندر عن شعبة عن جابر وهو ابن يزيد الجعفي عن الشعبي عن الحارث عن علي به وكذا رواه من حديث إسماعيل بن أبي خالد وحصين بن عبد الرحمن ومجالد بن سعيد وابن عون عن عامر الشعبي به وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث الشعبي به. ثم قال أحمد أخبرنا محمد بن عبدالله أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحق عن الحارث عن علي: قال لعن رسول الله صاحب الربا وآكله وكاتبه وشاهده والمحلل والمحلل له. "الحديث الثالث" عن جابر - رضي الله عنه - قال الترمذي: أخبرنا أبو سعيد الأشج أخبرنا أشعث بن عبدالرحمن بن يزيد الإيامي حدثنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبدالله وعن الحارث عن علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن المحلل والمحلل له ثم قال: وليس إسناده بالقائم ومجالد ضعفه غير واحد من أهل العلم منهم أحمد بن حنبل قال: ورواه ابن نمير عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبدالله عن علي قال: وهذا وهم من ابن نمير والحديث الأول أصح. "الحديث الرابع" عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال أبو عبدالله محمد بن يزيد بن ماجه حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري أخبرنا أبي سمعت الليث بن سعد يقول قال أبو المصعب مشرح هو ابن عاهان قال عقبة ابن عامر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ألا أخبركم بالتيس المستعار" قالوا: بلى يا رسول الله قال "هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له" تفرد به ابن ماجه وكذا رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني عن عثمان بن صالح عن الليث به ثم قال: كانوا ينكرون على عثمان في هذا الحديث إنكارا شديدا. "قلت" عثمان هذا أحد الثقات روى عنه البخاري في صحيحه ثم قد تابعه غيره فرواه جعفر الفريابي عن العباس المعروف بابن فريق عن أبي صالح عبدالله بن صالح عن الليث به فبرئ من عهدته والله أعلم. "الحديث الخامس" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عامر عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له "طريق أخرى" قال الإمام الحافظ خطيب دمشق أبو إسحق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني السعدي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حنيفة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المحلل قال "لا إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله ثم يذوق عسيلتها" ويتقوى هذان الإسنادان بما رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن حميد بن عبدالرحمن عن موسى بن أبي الفرات عن عمرو بن دينار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو من هذا فيتقوى كل من هذا المرسل والذي قبله بالآخر والله أعلم. "الحديث السادس" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر حدثنا عبدالله هو ابن جعفر عن عثمان بن محمد المقبري عن أبي هريرة قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - المحلل والمحلل له. وهكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة والجوزجاني والبيهقي من طريق عبدالله بن جعفر القرشي وقد وثقه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وغيرهم. وأخرج له مسلم في صحيحه عن عثمان بن محمد الأخنسي وثقه ابن معين عن سعيد المقبري وهو متفق عليه. "الحديث السابع" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا محمد بن إسحق الصنعاني حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا أبو يمان محمد بن مطرف المدني عن عمر بن نافع عن أبيه أنه قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه هل تحل للأول فقال: لا إلا نكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد رواه الثوري عن عبدالله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر به وهذه الصيغة مشعرة بالرفع وهكذا روى أبو بكر بن أبي شيبة والجوزجاني وحرب الكرماني وأبو بكر الأثرم من حديث الأعمش عن المسيب بن رافع عن قبيصة بن جابر عن عمر أنه قال: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. وروى البيهقي من حديث ابن لهيعة عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار أن عثمان بن عفان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما وكذا روي عن علي وابن عباس وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم. وقوله "فإن طلقها" أي الزوج الثاني بعد الدخول بها "فلا جناح عليهما أن يتراجعا" أي المرأة والزوج الأول "إن ظنا أن يقيما حدود الله" أي يتعاشرا بالمعروف. قال مجاهد: إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة "وتلك حدود الله" أي شرائعه وأحكامه "يبينها" أي يوضحها "لقوم يعلمون" . وقد اختلف الأئمة رحمهم الله فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين وتركها حتى انقضت عدتها ثم تزوجت بآخر فدخل بها ثم طلقها فانقضت عدتها ثم تزوجها الأول هل تعود إليه بما بقي من الثلاث كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وهو قول طائفة من الصحابة رضي الله عنهم أن يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق فإذا عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله وحجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلأن يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى والله أعلم.