Translate

تفسير القرآن الكريم لجميع العلماء

ترجم الصفحه

[سورة النساء 24 - 26]


(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۖ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ۚ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ ۚ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ۚ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ۚ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
[سورة النساء 24 - 26]


وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۖ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ۚ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا
وقوله تعالى "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " أي وحرم عليكم من الأجنبيات المحصنات وهى المزوجات إلا ما ملكت أيمانكم يعني إلا ما ملكتموهن بالسبي فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن فإن الآية نزلت في ذلك. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزاق أخبرنا سفيان هو الثوري عن عثمان البتي عن أبي الخليل عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبيا من سبي أوطاس ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج فسألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآية "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " فاستحللنا فزوجهن وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن هشيم ورواه النسائي من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج ثلاثتهم عن عثمان البتي ورواه ابن ماجه من حديث أشعث بن سوار عن عثمان البتي ورواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة كلاهما عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم عن أبي سعيد الخدري فذكره وهكذا رواه عبدالرزاق عن معمر عن قتادة عن أبي الخليل عن أبي سعيد الخدري به وروى من وجه آخر عن أبي الخليل عن أبي علقمة الهاشمي عن أبي سعيد الخدري قال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن أبي الخليل عن أبي علقمة عن أبي سعيد الخدري أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصابوا سبيا يوم أوطاس لهن أزواج من أهل الشرك فكان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا وتأثموا من غشيانهن قال: فنزلت هذه الآية في ذلك "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة زاد مسلم وشعبة ورواه الترمذي من حديث همام بن يحيى ثلاثتهم عن قتادة بإسناده نحوه وقال الترمذي هذا حديث حسن ولا أعلم أن أحدا ذكر أبا علقمة في هذا الحديث إلا ما ذكر همام عن قتادة - كذا قال وقد تابعه شعبة والله أعلم. وقد روى الطبراني من حديث الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في سبايا خيبر وذكر مثل حديث أبي سعيد وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن بيع الأمة يكون طلاقا لها من زوجها أخذا بعموم هذه الآية وقال ابن جرير حدثنا ابن مثنى حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن مغيرة عن إبراهيم أنه سئل عن الأمة تباع ولها زوج ؟ قال: كان عبدالله يقول: بيعها طلاقها ويتلو هذه الآية "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " وكذا رواه سفيان عن منصور ومغيرة والأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود قال: بيعها طلاقها وهو منقطع ورواه سفيان الثوري عن خليد عن أبي قلابة عن ابن مسعود قال: إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها. ورواه سعيد عن قتادة قال أبي بن كعب وجابر بن عبدالله وابن عباس قالوا: بيعها طلاقها وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن خليد عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلاق الأمة ست بيعها طلاقها وعتقها طلاقها وهبتها طلاقها وبراءتها طلاقها وطلاق زوجها طلاقها: وقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب قوله "والمحصنات من النساء" قال: هذه ذوات الأزواج حرم الله نكاحهن إلا ما ملكت يمينك فبيعها طلاقها وقال معمر: وقال الحسن مثل ذلك وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن في قوله "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " قال: إذا كان لها زوج فبيعها طلاقها. وروى عوف عن الحسن بيع الأمة طلاقها وبيعه طلاقها فهذا قول هؤلاء من السلف وقد خالفهم الجمهور قديما وحديثا فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقا لها لأن المشتري نائب عن البائع والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنها واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وأعتقتها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث ; بل خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الفسخ والبقاء فاختارت الفسخ وقصتها مشهورة فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال هؤلاء ما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم ; فلما خيرها دل على بقاء النكاح وأن المراد من الآية المسببات فقط والله أعلم وقد قيل المراد بقوله "والمحصنات من النساء" يعني العفائف حرام عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور وولي واحدة أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا ; حكاه ابن جرير عن أبي العالية وطاوس وغيرهما. وقال عمر وعبيدة "والمحصنات من النساء " ما عدا الأربع حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم. وقوله تعالى "كتاب الله عليكم " أي هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم يعني الأربع فالزموا كتابه ولا تخرجوا عن حدوده والزموا شرعه وما فرضه. وقال عبيدة وعطاء والسدي في قوله "كتاب الله عليكم " يعني الأربع وقال إبراهيم "كتاب الله عليكم " يعني ما حرم عليكم. وقوله تعالى "وأحل لكم ما وراء ذلكم " ما دون الأربع وهذا بعيد. والصحيح قول عطاء كما تقدم. وقال قتادة: وأحل لكم ما وراء ذلكم يعني مما ملكت أيمانكم وهذه الآية هي التي احتج بها من احتج على تحليل الجمع بين الأختين وقول من قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية وقوله تعالى "أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين " أي تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى أربع أو السراري ما شئتم بالطريق الشرعي ولهذا قال "محصنين غير مسافحين " وقوله تعالى "فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة" أي كما تستمتعون بهن فأتوهن مهورهن في مقابلة ذلك كما قال تعالى "وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض " وكقوله تعالى "وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " وكقوله "ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة ولا شك أنه كان مشروعا في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد ذلك وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ مرتين وقال آخرون: أكثر من ذلك. وقال آخرون: إنما أبيح مرة ثم نسخ ولم يبح بعد ذلك وقد روى عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة وهو رواية عن الإمام أحمد وكان ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرؤن "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فأتوهن أجروهن فريضة " وقال مجاهد: نزلت في نكاح المتعة ولكن الجمهور على خلاف ذلك والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: نهى رسول الله صلى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ولهذا الحديث ألفاظ مقررة هي في كتاب الأحكام وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني عن أبيه أنه غزا مع رسول الله صلى يوم فتح مكة فقال " يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وأن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " وفي رواية لمسلم في حجة الوداع وله ألفاظ موضعها كتاب الأحكام وقوله تعالى "ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة " من حمل هذه الآية على نكاح المتعة إلى أجل مسمى قال: لا جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تتراضوا على زيادة به وزيادة للجعل قال السدي: إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما فقال: أتمتع منك أيضا بكذا وكذا فإن زاد قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدة وهو قوله تعالى "ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة" قال السدي: إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل وهي منه بريئة وعليها أن تستبرئ ما في رحمها وليس بينهما ميراث فلا يرث واحد منهما صاحبه ومن قال بهذا القول الأول جعل معناه كقوله "وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " الآية أي إذا فرضت لها صداقا فأبرأتك منه أو عن شيء منه فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبدالأعلى حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه قال: زعم الحضرمي أن رجالا كانوا يفرضون المهر ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة فقال: ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به من بعد الفريضة يعني إن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ واختار هذا القول ابن جرير وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة " والتراضي أن يوفيها صداقها ثم يخيرها يعني في المقام أو الفراق. وقوله تعالى "إن الله كان عليما حكيما " مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات.
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ ۚ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ۚ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ۚ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
يقول تعالى "ومن لم يستطع منكم طولا" أي سعة وقدرة "أن ينكح المحصنات المؤمنات" أي الحرائر العفائف. وقال ابن وهب: أخبرني عبدالجبار عن ربيعة "ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات" قال ربيعة: الطول الهوى يعني ينكح الأمة إذا كان هواه فيها رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ثم أخذ يشنع على هذا القول ويرده "فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات" أي فتزوجوا من الإماء المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون ولهذا قال "من فتياتكم المؤمنات" قال ابن عباس وغيره: فلينكح من إماء المؤمنين وكذا قال السدي ومقاتل بن حيان. ثم أعترض بقوله "والله أعلم بأيمانكم بعضكم من بعض" أي هو العالم بحقائق الأمور وسرائرها وإنما لكم أيها الناس الظاهر من الأمور ثم قال: "فانكحوهن بإذن أهلهن" فدل على أن السيد هو ولي أمته لا تزوج إلا بإذنه وكذلك هو ولي عبده ليس له أن يتزوج بغير إذنه كما جاء في الحديث " أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر " أي زان. فإن كان مالك الأمة امرأة زوجها من يزوج المرأة بإذنها لما جاء في الحديث "لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها " وقوله تعالى "وآتوهن أجورهن بالمعروف" أي وادفعوا مهورهن بالمعروف أي عن طيب نفس منكم ولا تبخسوا منه شيئا استهانة بهن لكونهن إماء مملوكات وقوله تعالى "محصنات" أي عفائف عن الزنا لا يتعاطينه ولهذا قال "غير مسافحات" وهن الزوانى اللاتي لا يمنعن من أرادهن بالفاحشة - وقوله تعالى "ولا متخذات أخدان" قال ابن عباس: "المسافحات" هن الزواني المعلنات يعني الزواني اللاتي لا يمنعن أحدا أرادهن بالفاحشة: وقال ابن عباس: ومتخذات أخدان يعني أخلاء وكذا روى عن أبى هريرة ومجاهد والشعبي والضحاك وعطاء الخراساني ويحيى بن أبي كثير ومقاتل بن حيان والسدي قالوا: أخلاء وقال الحسن البصري يعني الصديق وقال الضحاك أيضا "ولا متخذات أخدان" ذات الخليل الواحد المقرة به نهى الله عن ذلك يعني تزويجها ما دامت كذلك وقوله تعالى "فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب" اختلف القراء في "أحصن فقرأه بعضهم بضم الهمزة وكسر الصاد مبنى لما لم سم فاعله وقرئ بفتح الهمزة والصاد فعل لازم ثم قيل: معنى القراءتين واحد واختلفوا فيه على قولين " أحدهما " أن المراد بالإحصان ههنا الإسلام روى ذلك عن عبدالله بن مسعود وابن عمر وأنس والأسود بن يزيد وزر بن حبيش وسعيد بن جبير وعطاء وإبراهيم النخعي والشعبي والسدي وروى نحوه الزهري عن عمر بن الخطاب وهو منقطع وهذا هو القول الذي نص عليه الشافعي في رواية الربيع قال: وإنما قلنا ذلك استدلالا بالسنة وإجماع أكثر أهل العلم. وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا مرفوعا قال: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أحمد بن عبدالرحمن بن عبدالله حدثنا أبي عن أبيه عن أبي حمزة عن جابر عن رجل عن أبي عبدالرحمن عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم "فإذا أحصن" قال " إحصانها إسلامها وعفافها " وقال: المراد به ههنا التزويج قال: وقال علي اجلدوهن ثم قال ابن أبي حاتم: وهو حديث منكر قلت وفي إسناده ضعف وفيه من لم يسم ومثله لا تقوم به حجة وقال القاسم وسالم: إحصانها إسلامها وعفافها وقيل: المراد به ههنا التزويج وهو قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة وطاوس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم ونقله أبو علي الطبري في كتابه الإيضاح عن الشافعي فيما رواه أبو الحكم بن عبدالحكم عنه. وقد روى ليث بن أبى سليم عن مجاهد أنه قال: إحصان الأمة أن ينكحها الحر وإحصان العبد أن ينكح الحرة وكذا روى ابن أبى طلحه عن ابن عباس رواهما ابن جرير في تفسيره وذكره ابن أبي حاتم عن الشعبي والنخعي. وقيل: معنى القراءتين متباين فمن قرأ أحصن بضم الهمزة فمراده التزويج ومن قرأ بفتحها فمراده الإسلام اختاره أبو جعفر ابن جرير في تفسيره وقرره ونصره ; والأظهر والله أعلم أن المراد بالإحصان ههنا التزويج لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه وتعالى "ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات" والله أعلم والآية الكريمة سياقها في الفتيات المؤمنات فتعين أن المراد بقوله "فإذا أحصن" أي تزوجن كما فسره ابن عباس وغيره وعلى كل من القولين إشكاله على مذهب الجمهور وذلك أنهم يقولون: إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة سواء كانت مسلمة أو كافرة مزوجة أو بكرا مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة ممن زنا من الإماء وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك فأما الجمهور فقالوا: لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء فقدمناها على مفهـوم الآية. فمن ذلـك ما رواه مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال: يا أيها الناس أقيموا الحد على إمائكم من أحصن منهن ومن لم يحصن فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أحسنت اتركها حتى تتماثل " وعند عبدالله بن أحمد عن غير أبيه " فإذا تعافت من نفاسها فاجلدها خمسين " وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى يقول " إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثانية فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر " ولمسلم " إذا زنت ثلاثا فليبعها في الرابعة" وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن عبدالله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال: أمرنى عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا من ولائد الإمارة خمسين خمسين من الزنا. " الجواب الثاني "جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها وإنما تضرب تأديبا وهو المحكي عن ابن عباس رضى الله عنه وإليه ذهب طاوس وسعيد بن جبير وأبو عبيد القاسم بن سلام وداود بن علي الظاهري في رواية عنه وعمدتهم مفهوم الآية وهو من مفاهيم الشرط وهو حجة عند أكثرهم فقدم على العموم عندهم. وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ؟ قال " إن زنت فحدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير " قال ابن شهاب: لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة أخرجاه في الصحيحين وعند مسلم قال ابن شهاب: الضفير الحبل. قالوا: فلم يؤقت فيه عددكما أقت في المحصنة وكما وقت في القرآن بنصف ما على المحصنات فوجب الجمع بين الآية والحديث بذلك والله أعلم - وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور عن سفيان عن مسعر عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ليس على أمة حد حتى تحصن- يعني تزوج - فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات " وقد رواه ابن خزيمة عن عبدالله بن عمران العابدي عن سفيان به مرفوعا وقال: رفعه خطأ إنما هو من قول ابن عباس وكذا رواه ابن خزيمة عن عبدالله بن عمران وقال: مثل ما قاله ابن خزيمة قالوا: وحديث علي وعمر قضايا أعيان وحديث أبي هريرة عنه أجوبة "أحدها" أن ذلك محمول على الأمة المزوجة جمعا بينه وبين هذا الحديث "الثاني" أن لفظة الحد في قوله " فليقم عليها الحد " مقحمة من بعض الرواة بدليل الجواب الثالث وهو أن هذا من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقديم من رواية واحد وأيضا فقد رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم من حديث عباد بن تميم عن عمه وكان قد شهد بدرا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا زنت الأمة فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير " "الرابع" أنه لا يبعد أن بعض الرواة أطلق لفظ الحد في الحديث على الجلد لأنه لما كان الجلد اعتقد أنه حد أو أنه أطلق لفظة الحد على التأديب كما أطلق الحد على ضرب من زنا من المرضى بعثكال نخل فيه مائة شمراخ وعلى جلد من زنا بأمة امرأته إذا أذنت له فيها مائة وإنما ذلك تعزير وتأديب عند من يراه كأحمد وغيره من السلف. وإنما الحد الحقيقي هو جلد البكر مائة ورجم الثيب أو اللائط والله أعلم. وقد روى ابن ماجه وابن جرير في تفسيره: حدثنا ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة أنه سمع سعيد بن جبير يقول: لا تضرب الأمة إذا زنت ما لم تتزوج وهذا إسناد صحيح عنه ومذهب غريب إن أراد أنها لا تضرب الأمة أصلا لا حدا وكأنه أخذ بمفهوم الآية ولم يبلغه الحديث وإن أراد أنها لا تضرب حدا ولا ينفي ضربها تأديبا فهو كقول ابن عباس رضي الله عنه ومن تبعه في ذلك والله أعلم. " الجواب الثالث " أن الآية دلت على أن الأمة المحصنة تحد نصف حد الحرة فأما قبل الإحصان فعمومات الكتاب والسنة شاملة لها في جلدها مائة كقوله تعالى "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة" وكحديث عبادة بن الصامت " خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجمها بالحجارة " والحديث في صحيح مسلم وغير ذلك من الأحاديث. وهذا القول هو المشهور عن داود بن عن الظاهري وهو في غاية الضعف لأن الله تعالى إذا كان أمر بجلد المحصنة من الإماء بنصف ما على الحرة من العذاب وهو خمسون جلدة فكيف يكون حكمها قبل الإحصان أشد منه بعد الإحصان وقاعدة الشريعة في ذلك عكس ما قال وهذا الشارع عليه السلام سأله أصحابه عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال "اجلدوها" ولم يقل مائة فلو كان حكمها كما زعم داود لوجب بيان ذلك لهم لأنهم إنما سألوا عن ذلك لعدم بيان حكم جلد المائة بعد الإحصان في الإماء وإلا فما الفائدة في قولهم ولم تحصن لعدم الفرق بينهما لو لم تكن الآية نزلت لكن لما علموا أحد الحكمين سألوا عن الآخر فبينه لهم كما في الصحيحين أنهم لما سألوه عن الصلاة عليه فذكرها لهم ثم قال "والسلام ما قد علمتم" وفي لفظ لما أنزل الله قوله "يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما" قالوا هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك وذكر الحديث وهكذا هذا السؤال. " الجواب الرابع "عن مفهوم الآية جواب أبي ثور وهو أغرب من قول داود من وجوه وذلك أنه يقول: فإذا أحصن فإن عليهن نصف ما على المحصنات المزوجات الرجم وصولا يتناصف فيجب أن ترجم الأمة المحصنة إذا زنت وأما قبل الإحصان فيجب جلدها خمسين فأخطأ في فهم الآية وخالف الجمهور في الحكم بل قد قال أبو عبدالله الشافعي رحمه الله ولم يختلف المسلمون في أن لا رجم على مملوك في الزنا وذلك لأن الآية دلت على أن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب والألف واللام في المحصنات للعهد وهن المحصنات المذكورات في أول الآية "من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات" والمراد بهن الحرائر فقط من غير تعرض للتزويج بحرة وقوله "نصف ما على المحصنات من العذاب" يدل على أن المراد من العذاب الذي يمكن تبعيضه وهو الجلد لا الرجم والله أعلم. وقد روى أحمد حديثا في رد مذهب أبي ثور من رواية الحسن بن سعيد عن أبيه أن صفية قد زنت برجل من الحمس فولدت غلاما فادعاه الزاني فاختصما إلى عثمان فرفعهما إلى علي بن أبي طالب فقال علي أقضي فيهما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش وللعاهر الحجر "وجلدهما خمسين خمسين وقيل بل المراد من المفهوم التنبيه بالأعلى على الأدنى أي أن الإماء على النصف من الحرائر في الحد وإن كن محصنات وليس عليهن رجم أصلا لا قبل النكاح ولا بعده وإنما عليهن الجلد بالحالين في السنة قال ذلك صاحب الإفصاح وذكر هذا عن الشافعي فيما رواه ابن عبدالحكم وقد ذكر البيهقي في كتاب السنن والآثار عنه وهو بعيد عن لفظ الآية لأنا إنما استفدنا تنصيف الحد من الآية لا من سواها فكيف يفهم منها التنصيف فيما عداها وقال بل أريد بأنها في حال الإحصان لا يقيم الحد عليها إلا الإمام ولا يجوز لسيدها إقامة الحد عليها والحالة هذه وهو قول في مذهب أحمد رحمه الله فأما قبل الإحصان فله ذلك والحد في كلا الموضعين نصف حد الحرة وهذا أيضا بعيد لأنه ليس في الآية ما يدل عليه ولولا هذه لم ندر ما حكم الإماء في التنصيف واوجب دخولهن في عموم الآية في تكميل الحد مائة أو رجمهن كما ثبت في الدليل عليه وقد تقدم عن علي أنه قال: أيها الناس أقيموا الحد على أرقائكم من أحصن منهم ومن لم يحصن وعموم الأحاديث المتقدمة ليس فيها تفصيل بين المزوجة وغيرها لحديث أبي هريرة الذي احتج به الجمهور "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها" ملخص الآية أنها إذا زنت أقوال. أحدها تجلد خمسين قبل الإحصان وبعده وهل تنفي فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنها تنفي عنه. والثاني لا تنفي عنه مطلقا والثالث أنها تنفي نصف سنة وهو نصف نفي الحرة وهذا الخلاف في مذهب الشافعي وأما أبو حنيفة فعنده أن النفي تعزير ليس من تمام الحد وإنما هو رأي الإمام إن شاء فعله وإن شاء تركه في حق الرجال والنساء وعند مالك أن النفي إنما هو على الرجال واما النساء فلا لأن ذلك مضاد لصيانتهن وما ورد شيء من النفي في الرجال ولا النساء. نعم حديث عبادة وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وبإقامة الحد عليه رواه البخاري وذلك مخصوص بالمعنى وهو أن المقصود من النفي الصون وذلك مفقود في نفي النساء والله أعلم والثاني أن الأمة إذا زنت تجلد خمسين بعد الإحصان وتضرب تأديبا غير محدود بعدد محصور وقد تقدم ما رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير أنها لا تضرب قبل الإحصان وإن أراد نفيه فيكون مذهبا بالتأويل. وإلا فهو كالقول الثاني القول الآخر أنها تجلد قبل الإحصان مائة وبعده خمسين كما هو المشهور عن داود وهو أضعف الأقوال أنها تجلد قبل الإحصان خمسين وترجم بعده وهو قول أبي ثور وهو ضعيف أيضا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وقوله تعالى "ذلك لمن خشي العنت منكم" أي إنما يباح نكاح الإماء بالشروط المتقدمة لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنا وشق عليه الصبر عن الجماع وعنت بسبب ذلك كله فله حينئذ أن يتزوج بالأمة وإن ترك تزوجها وجاهد نفسه في الكف عن الزنا فهو خير له لأنه إذا تزوجها جاء أولاده أرقاء لسيدها إلا أن يكون الزوج غريبا فلا تكون أولاده منها أرقاء في قول قديم للشافعي ولهذا قال "وإن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم" ومن هذه الآية الكريمة استدل جمهور العلماء في جواز نكاح الإماء على أنه لا بد من عدم الطول لنكاح الحرائر ومن خوف العنت لما في نكاحهن من مفسدة رق الأولاد ولما فيهن من الدناءة في العدول عن الحرائر إليهن وخالف الجمهور أبو حنيفة وأصحابه في اشتراط الأمرين فقالوا متى لم يكن الرجل مزوجا بحرة جاز له نكاح الأمة المؤمنة والكتابية أيضا سواء كان واجدا لطول حرة أم لا وسواء خاف العنت أم لا وعمدتهم فيما ذهبوا إليه قوله تعالى "والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم" أي العفائف وهو يعم الحرائر والإماء وهذه الآية عامة وهذه أيضا ظاهرة في الدلالة على ما قاله الجمهور والله أعلم.
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
يخبر تعالى أنه يريد أن يبين لكم أيها المؤمنون ما أحل لكم وحرم عليكم بما تقدم وذكره في هذه السورة وغيرها "ويهديكم سنن الذين من قبلكم" يعني طرائقهم الحميدة واتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها "ويتوب عليكم" أي من الإثم والمحارم "والله عليم حكيم" أي في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله.