Translate

تفسير القرآن الكريم لجميع العلماء

ترجم الصفحه

[سورة البقرة 70 - 76]




(قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)
[سورة البقرة 70 - 76]
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ

قوله تعالى "إن البقرة تشابه عليها" أي لكثرتها فميز لنا هذه البقرة وصفها وحلها لنا "وإنا إن شاء الله" إذا بينتها لنا "لمهتدون" إليها وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن يحيى الأودي الصوفي حدثنا أبو سعيد أحمد بن داود الحداد حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي ابن أخي منصور بن زاذان عن عباد بن منصور عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا أن بني إسرائيل قالوا "وإنا إن شاء الله لمهتدون" لما أعطوا ولكن استثنوا" ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من وجه آخر عن سرور بن المغيرة عن زاذان عن عباد بن منصور عن الحسن عن حديث أبي رافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا أن بني إسرائيل "قالوا وإنا إن شاء الله لمهتدون" ما أعطوا أبدأ ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوا لأجزأت عنهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم" وهذا حديث غريب من هذا الوجه وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة كما تقدم مثله عن السدي والله أعلم.
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ

"قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث" أي إنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في الساقية بل هي مكرمة حسنة صبيحة مسلمة صحيحة لا عيب بها "لا شية فيها" أي ليس فيها لون غير لونها وقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة مسلمة يقول لا عيب فيها وكذا قال أبو العالية والربيع وقال مجاهد: مسلمة من الشية. وقال عطاء الخراساني: مسلمة القوائم والخلق لا شية فيها قال مجاهد: لا بياض ولا سواد وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة: ليس فيها بياض. وقال عطاء الخراساني: لا شية فيها قال لونها واحد بهيم وروي عن عطية العوفي ووهب بن منبه وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك وقال السدي لا شية فيها من بياض ولا سواد ولا حمرة. وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى "إنها بقرة لا ذلول" ليس بمذللة بالعمل ثم استأنف فقال "تثير الأرض" أي يعمل عليها بالحراثة لكنها لا تسقي الحرث وهذا ضعيف لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث كذا قرره القرطبي وغيره "قالوا الآن جئت بالحق" قال قتادة الآن بينت لنا وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم وقيل ذلك والله جاءهم الحق "فذبحوها وما كادوا يفعلون" قال الضحاك عن ابن عباس كادوا أن لا يفعلوا ولم يكن ذلك الذي أرادوا لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها يعني أنهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة والأجوبة والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد وفي هذا ذم لهم وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت فلهذا ما كادوا يذبحونها. وقال محمد بن كعب ومحمد بن قيس فذبحوها وما كادوا يفعلون لكثرة ثمنها وفي هذا نظر لأن كثرة الثمن لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل كما تقدم من حكاية أبي العالية والسدى ورواه العوفي عن ابن عباس قال عبيدة ومجاهد ووهب بن منبه وأبو العالية وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم أنهم اشتروها بمال كثير وفيه اختلاف ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك وقال عبدالرزاق أنبأنا ابن عيينة أخبرني محمد بن سوقة عن عكرمة قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير وهذا إسناد جيد عن عكرمة والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضا وقال ابن جرير وقال آخرون لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة إن اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه ولم يسنده عن أحد ثم اختار أن الصواب فى ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها وللفضيحة وفي هذا نظر بل الصواب والله أعلم ما تقدم من رواية الضحاك عن ابن عباس على ما وجهناه وبالله التوفيق. "مسئلة" استدل بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الاطلاق على صحة السلم في الحيوان كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور العلماء سلفا وخلفا بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها" وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم إبل الدية في قتل الخطأ وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون لا يصح السلم في الحيوان لأنه لا تنضبط أحواله وحكى مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبدالرحمن بن سمرة وغيرهم.
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ

قال البخاري "فادارءتم فيها" اختلفتم وهكذا قال مجاهد فيما رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبى حذيفة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال في قوله تعالى "وإذ قتلتم نفسا فادارءتم فيها" اختلفتم وقال عطاء الخراساني والضحاك اختصمتم فيها وقال ابن جريج "وإذ قتلتم نفس فادارءتم فيها" قال: قال بعضهم أنتم قتلتموه وقال آخرون بل أنتم قتلتموه وكذا قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم "والله مخرج ما كنتم تكتمون" قال مجاهد ما تغيبون وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرة بن أسلم البصري حدثنا محمد بن الطفيل العبدي حدثنا صدقة بن رستم سمعت المسيب بن رافع يقول ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله وتصديق ذلك فى كلام الله "والله مخرج ما كنتم تكتمون".
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

"فقلنا اضربوه ببعضها" هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به وخرق العادة به كائن وقد كان معينا في نفس الأمر فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا ولكنه أبهمه ولم يجيء من طريق صحيح عن معصوم بيانه فمن نبهمه كما أبهمه الله ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عفان بن مسلم حدثنا عبدالواحد بن زياد حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له وكانت بقرة تعجبه قال فجعلوا يعطونه بها فيأبى حتى أعطوه ملء مسكها دنانير فذبحوها فضربوه - يعني القتيل - بعضو منها فقام تشخب أوداجه دم فقالوا له من قتلك؟ قال قتلني فلان وكذا قال الحسن وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم أنه ضرب ببعضها وفي رواية ابن عباس أنه ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف وقال عبدالرزاق أنبأنا معمر قال: قال أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة ضربوا القتيل ببعض لحمها قال معمر: قال قتادة ضربوه بلحم فخذها فعاش فقال قتلني فلان وقال وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا النضر بن عربي عن عكرمة "فقلنا اضربوه ببعضها" فضرب بفخذها فقام فقال قتلني فلان قال ابن أبي حاتم وروى عن مجاهد وقتادة وعكرمة نحو ذلك. وقال السدي فضربوه بالبضعة التي بين الكفتين فعاش فسألوه فقال قتلني ابن أخي وقال أبو العالية أمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عظما من عظامها فيضربوا به القتيل ففعلوا فرجع إليه روحه فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: فضربوه ببعض ارابها وقيل بلسانها وقيل بعجب ذنبها وقوله تعالى "كذلك يحيى الله الموتي" أي فضربوه فحي ونبه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل جعل تبارك وتعالى ذلك الصنيع حجة لهم على المعاد وفاصلا ما كان بينهم من الخصومة والعناد والله تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع "ثم بعثناكم من بعد موتكم" وهذه القصة وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها وقصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميما كما قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة أخبرني يعلى بن عطاء قال سمعت وكيع بن عدس يحدث عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ قال "أما مررت بواد ممحل ثم مررت به خضرا" قال بلى: قال "كذلك النشور" أو قال "كذلك يحيي الله الموتى" وشاهد هذا قوله تعالى "وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون" "مسألة" استدل لمذهب الإمام مالك في كون قول الجريح فلان قتلني لوثا بهذه القصة لأن القتيل لما حيي سئل عمن قتله فقال فلان قتلني فكان ذلك مقبولا منه لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق ولا يتهم والحالة هذه. ورجحوا ذلك لحديث أنس أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها فرضخ رأسها بين حجرين فقيل فعل بك هذا أفلان؟ أفلان؟ حتى ذكروا اليهودي فأومأت برأسها فأخذ اليهودي فلم يزل به حتى اعترف فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرض رأسه بين حجرين وعند مالك إذا كان لوثا حلف أولياء القتيل قسامة وخالف الجمهور في ذلك ولم يجعلوا قول القتيل في ذلك لوثا.
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

يقول تعالى توبيخا لبني إسرائيل وتقريعا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى الله وإحيائه الموتى "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك" كله فهي كالحجارة التي تلين أبدا ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون" قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس لما ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط فقيل له من قتلك قال بنو أخي قتلوني ثم قبض فقال بنو أخيه حين قبضه الله والله ما قتلناه فكذبوا بالحق بعد أن رأوه فقال الله "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك" يعني أبناء أخي الشيخ فهي كالحجارة أو أشد قسوة فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء وإن لم يبن جاريا ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله وفيه إدراك لذلك بحسبه كما قال "تسبح له السموات والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا" وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه كان يقول كل حجر يتفجر منه الماء أو يتشقق عن ماء أو يتردى من رأس جبل لمن خشية الله نزل بذلك القرآن وقال محمد بن إسحق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله" أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق "وما الله بغافل عما تعملون" وقال أبو علي الجياني في تفسيره "وإن منها لما يهبط من خشية الله" هو سقوط البرد من السحاب قال القاضي الباقلاني وهذا تأويل بعيد وتبعه في استبعاده الرازي وهو كما قال فإن هذا خروج عن اللفظ بلا دليل والله أعلم وقال: ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا الحكم بن هشام الثقفي حدثني يحيى ابن أبي طالب يعني ويحيى بن يعقوب في قوله تعالى "وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار" قال كثرة البكاء "وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء" قال قليل البكاء "وإن منها لما يهبط من خشية الله" قال بكاء القلب غير دموع العين وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة ما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله "يريد أن ينقض" قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة ولا حاجة إلى هذا فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها" وقال "تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن" الآية وقال "والنجم والشجر يسجدان" "أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله" الآية "قالتا أتينا طائعين" "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل" الآية "وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله" الآية وفي الصحيح "هذا جبل يحبنا ونحبه" وكحنين الجذع المتواتر خبره وفي صحيح مسلم "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن" وفى صفة الحجر الأسود إنه يشهد لمن استلم بحق يوم القيامة وغير ذلك مما فى معناه وحكى القرطبي قولا إنها للتخيير أي مثلا لهذا وهذا وهذا مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين. وكذا حكاه الرازي فى تفسيره وزاد قولا آخر أنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزا أو تمرا وهو يعلم أيهما أكل وقال آخر إنها بمعنى قول القائل كل حلوا أو حامضا أي لا يخرج عن واحد منهما. أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين والله أعلم. " تنبيه" اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى "فهي كالحجارة أو أشد قسوة" بعد الإجماع على استحالة كونها للشك فقال بعضهم أو ههنا بمعنى الواو تقديره: فهي كالحجارة وأشد قسوة كقوله تعالى "ولا تطع منهم آثما أو كفورا" "عذرا أو نذرا" وكما قال النابغة الذبياني: قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد تريد ونصفه قاله ابن جرير: وقال جرير بن عطية: نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر قال ابن جرير يعني نال الخلافة وكانت له قدرا وقال آخرون أو ههنا بمعنى بل فتقديره: فهي كالحجارة بل أشد قسوة وكقوله "إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية" وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون" "فكان قاب قوسين أو أدنى" وقال آخرون معنى ذلك "فهي كالحجارة أو أشد قسوة" عندكم حكاه ابن جرير: وقال آخرون المراد بذلك الإبهام على المخاطب كما قال أبو الأسود: أحب محمدا حبا شديدا وعباسا وحمزة والوصيا فإن يك حبهم رشدا أصبه وليس بمخطئ إن كان غيا قال ابن جرير قالوا ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى رشد ولكنه أبهم على من خاطبه قال وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له شككت فقال كلا والله ثم انتزع يقول الله تعالى "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" فقال أوكان شاكا من أخبر بهذا من الهادي منهم ومن الضال؟ وقال بعضهم معنى ذلك فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة وإما أن تكون أشد منها فى القسوة. قال: ابن جرير ومعنى ذلك على هذا التأويل فبعضها كالحجارة قسوة وبعضها أشد قسوة من الحجارة وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره "قلت" وهذا القول الأخير يبقى شبيها بقوله تعالى "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" مع قوله "أو كصيب من السماء" وكقوله "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة" مع قوله "أو كظلمات في بحر لجي" الآية أي إن منهم من هو هكذا ومنهم من هو كهذا والله أعلم. وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن أيوب حدثنا محمد بن عبدالله بن أبي الثلج حدثنا علي بن حفص حدثنا إبراهيم بن عبدالله بن حاطب عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي". رواه الترمذي في كتابه الزهد من جامعه عن محمد بن عبدالله بن أبي الثلج صاحب الإمام أحمد به ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبدالله بن الحارث بن حاطب به وقال غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم. وروى البزار عن أنس مرفوعا "أربع من الشقاء جمود العين وقساوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا".
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

يقول تعالى "أفتطمعون" أيها المؤمنون "أن يؤمنوا لكم" أي ينقاد لكم بالطاعة هؤلاء الفرفة الضالة من اليهود الذين شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه ثم قست قلوبهم من بعد ذلك "وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه" أي يتأولونه على غير تأويله "من بعد ما عقلوه" أي فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه على بصيرة "وهم يعلمون" أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله وهذا المقام شبيه بقوله تعالى "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه" قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال ثم قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله" وليس قوله ليسمعون التوراة كلهم قد سمعها ولكن هم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها. وقال محمد بن إسحاق فيما حدثني بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى يا موسى قد حيل بيننا وبين رؤية ربنا تعالى فأسمعنا كلامه حين يكلمك فطلب ذلك موسى إلى ربه تعالى فقال نعم مرهم فليتطهروا وليطهروا ثيابهم ويصوموا ففعلوا ثم خرج بهم حتى أتوا الطور فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى أن يسجدوا فوقعوا سجودا وكلمه ربه فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم حتى عقلوا منه ما سمعوا ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل فلما جاءهم حرف فريق منهم ما أمرهم به وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل إن الله قد أمركم بكذا وكذا قال ذلك الفريق الذين ذكرهم الله إنما قال كذا وكذا خلافا لما قال الله عز وجل لهم فهم الذين عنى الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم وقال السدي "وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه" قال هي التوراة حرفوها وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس وابن إسحاق وإن كان قد اختاره ابن جرير لظاهر السياق فإنه ليس يلزم من سماع كلام الله أن يكون منه كما سمعه الكليم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام وقد قال الله تعالى "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله" أي مبلغا إليه ولهذا قال قتادة في قوله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون" قال هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه وقال مجاهد الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم وقال: أبو العالية عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - فحرفوه عن مواضعه وقال السدي "وهم يعلمون" أي أنهم أذنبوا وقال ابن وهب قال: ابن زيد في قوله "يسمعون كلام الله ثم يحرفونه" قال: التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها يجعلون الحلال فيها حراما والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقا وإذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب فهو فيه محق وإذا جاءهم أحد يسألهم شيئا ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق فقال الله لهم "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون".
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

وقوله تعالى "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض" الآية قال محمد بن إسحاق حدثنا محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا" أي إن صاحبكم رسول الله ولكنه إليكم خاصة وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم فكان منهم فأنزل الله "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم" أي تقرون بأنه نبي وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا اجحدوه ولا تقروا به يقول الله تعالى "أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون" وقال: الضحاك عن ابن عباس: يعني المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا آمنا وقال السدي هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا. وكذا قال الربيع بن أنس وقتادة وغير واحد من السلف والخلف حتى قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم فيما رواه ابن وهب عنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال "لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن" فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق اذهبوا فقولوا آمنا واكفروا إذا رجعتم إلينا فكانوا يأتون المدينة بالبكر ويرجعون إليهما بعد العصر. وقرأ قوله الله تعالى "وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون" وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة نحن مسلمون ليعلموا خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره. فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر فلما أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون فيقولون أليس قد قال الله لكم كذا وكذا؟ فيقولون بلى. فإذا رجعوا إلى قومهم يعني الرؤساء فقالوا "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" الآية. وقال أبو العالية "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" يعني بما أنزل الله في كتابكم من نعت محمد - صلى الله عليه وسلم. وقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم" قال كانوا يقولون سيكون نبي فخلا بعضهم ببعض "فقالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" - قول آخر في المراد بالفتح قال: ابن جريج: حدثني القاسم بن أبي برزة عن مجاهد في قوله تعالى "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" قال قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم قريظة تحت حصونهم فقال "يا إخوان القردة والخنازير ويا عبدة الطاغوت" فقالوا من أخبر بهذا الأمر محمدا؟ ما خرج هذا القول إلا منكم "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" بما حكم الله للفتح يكون لهم حجة عليكم. قال ابن جريج عن مجاهد هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا - صلى الله عليه وسلم وقال السدي "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" من العذاب "ليحاجوكم به عند ربكم" هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به فقال بعضهم لبعض "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" من العذاب ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم وأكرم على الله منكم وقال عطاء الخراساني "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" يعني بما قضى لكم وعليكم وقال الحسن البصري: هؤلاء اليهود كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قال بعضهم لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم ليحاجوكم به عند ربكم فيخصموكم.