Translate

تفسير القرآن الكريم لجميع العلماء

ترجم الصفحه

[سورة البقرة 94 - 101]




(قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ * وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ۖ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)
[سورة البقرة 94 - 101]
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

قال محمد بن إسحق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنه - يقول الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - "قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين" أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب فأبوا ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ

"ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين" أي يعلمهم بما عندهم من العلم بل والكفر بذلك ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات. وقال الضحاك عن ابن عباس فتمنوا الموت: فسلوا الموت وقال عبدالرزاق عن معمر عن عبدالكريم الجزري عن عكرمة قوله: "فتمنوا الموت إن كنتم صادقين". قال: قال ابن عباس لو تمنى يهود الموت لماتوا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا عثام سمعت الأعمش قال لا أظنه إلا عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس وقال ابن جرير في تفسيره وبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا" حدثنا بذلك أبو كريب حدثنا زكريا بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبدالكريم عن عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقي حدثنا فرات عن عبدالكريم به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبدالله بن بشار حدثنا سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن قال قول الله: ما كانوا ليتمنوه بما قدمت أيديهم. قلت أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم تمنوا الموت أتراهم كانوا ميتين؟ قال: لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت وما كانوا ليتمنوه. وقد قال الله ما سمعت "ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين" وهذا غريب عن الحسن ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الآية هو المتعين وهو الدعاء على أي الفريقين أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة ونقله ابن جرير عن قتادة وأبي العالية والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة "قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون" فهم عليهم لعائن الله تعالى لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك فلما تأخروا علم كذبهم وهذا كما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم فى المناظرة وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة فقال الله تعالى "فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين" فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض: والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف فعند ذلك جنحوا للسلم وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون فضربها عليهم وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح أمينا ومثل هذا المعنى أو قريب منه قول الله تعالى لنبيه أن يقول للمشركين "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا" أي من كان في الضلالة منا ومنكم فزاده الله مما هو فيه ومد له واستدرجه كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما من فسر الآية على معنى "إن كنتم صادقين" أي في دعواكم فتمنوا الآن الموت ولم يتعرض هؤلاء للمباهلة كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم ومال إليه ابن جرير بعد ما قارب القول الأول: فإنه قال القول في تأويل قوله تعالى "قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس" الآية فهذه الآية مما احتج الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره وفضح بها أحبارهم وعلماءهم وذلك أن الله تعالى أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوهم إلى قضية عادلة فيما كان بينه وبينهم من الخلاف كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إذا خالفوه في عيسى ابن مريم عليه السلام وجادلوه فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة فقال لفريق اليهود إن كنتم محقين فتمنوا الموت فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله لكم لكي يعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا وإن لم تعظوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا وانكشف أمرنا وأمركم لهم فامتنع اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبي في عيسى إذا دعوا للمباهلة من المباهلة. فهذا الكلام منه أوله حسن وآخره فيه نظر وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على هذا التأويل إذ يقال إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أنهم يتمنون الموت فإنه لا علاقة بين وجود الصلاح وتمني الموت وكم من صالح لا يتمنى الموت بل يود أن يعمر ليزداد خيرا ويرتفع درجته في الجنة كما جاء في الحديث "خيركم من طال عمره وحسن عمله" ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا فهل أنتم تعتقدون أيها المسلمون أنكم أصحاب الجنة وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت فكيف تلزموننا بما لا يلزمكم؟ وهذا كله إنما نشأ من تفسير الآية على هذا المعنى فأما على تفسير ابن عباس فلا يلزم عليه شيء من ذلك بل قيل لهم كلام نصف إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس وأنكم أبناء الله وأحباؤه وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم اعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونعته وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. وسميت هذه المباهلة تمنيا لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره وكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت ولهذا قال تعالى "ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين".
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ

"ولتجدنهم أحرص الناس على حياة" أي على طول العمر لما يعلمون مآلهم السيئ وعاقبتهم عند الله الخاسرة لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم وما يحاذرون منه واقع بهم لا محالة حتى وهم أحرص من المشركين الذين لا كتاب لهم وهذا من باب عطف الخاص على العام قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "ومن الذين أشركوا" قال الأعاجم وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري وقال صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. قال وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي وقال الحسن البصري "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة" قال المنافق أحرص الناس وأحرص من المشرك عل حياة "يود أحدهم" أي يود أحد اليهود كما يدل عليه نظم السياق وقال أبو العالية يود أحدهم أي أحد المجوس وهو يرجع إلى الأول لو يعمر ألف سنة. قال الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة" قال هو كقول الفارسي " ده هزارسال "يقول عشرة آلاف سنة. وكذا روي عن سعيد بن جبير نفسه أيضا وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق سمعت أبي عليا يقول حدثنا أبو حمزة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس فى قوله "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة" قال هو الأعاجم هزارسال نوروزر مهرجان وقال مجاهد "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة" قال: حببت إليهم الخطيئة طول العمر وقال مجاهد بن إسحق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس "وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر" أي وما هو بمنجيه من العذاب وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت فهو يحب طول الحياة وأن اليهودي لو عرف ما له في الآخرة من الخزي ما ضيع ما عنده من العلم. وقال العوفي عن ابن عباس "وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر" قال هذا الذين عادوا جبرائيل قال أبو العالية وابن عمر فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منجيه منه. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية يهود أحرص على الحياة من هؤلاء وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عمر كما عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافرا "والله بصير بما يعملون" أي خبير بما يعمل عباده من خير وشر وسيجازي كل عاطل بعمله.
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ

قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله جمع أهل العلم بالتأويل جميعا أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل إذ زعموا أن جبريل عدو لهم وأن ميكائيل ولي لهم ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك فقال بعضهم إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر نبوته: " ذكر من قال ذلك "حدثنا أبو كريب حدثنا يونس بن بكير عن عبدالحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "سلوا عما شئتم ولكن اجعلوا لي ذمة وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم عن شيء فعرفتموه لتتابعنني على الإسلام" فقالوا ذلك لك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "سلوا عما شئتم" قالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة ومن وليه من الملائكة؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعني؟" فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق فقال "نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه فنذر لله نذرا لئن عافاه الله من مرضه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها" فقالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اللهم اشهد عليهم وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض وأن ماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله عز وجل وإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله عز وجل" قالوا: اللهم نعم. قال "اللهم اشهد وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه" قالوا اللهم نعم. قال "اللهم اشهد" قالوا: أنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك. قال "فإن وليي جبريل ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه" قالوا: فعندها نفارقك ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك. قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا فأنزل الله عز وجل "قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه" - إلى قوله- "لو كانوا يعلمون" فعندها باءوا بغضب على غضب وقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي النضر هاشم بن القاسم وعبدالرحمن بن حميد فى تفسيره عن أحمد بن يونس كلاهما عن عبدالحميد بن بهرام به ورواه أحمد أيضا عن الحسين بن محمد المروزي عن عبدالحميد بنحوه وقد رواه محمد بن إسحق بن يسار حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب فذكر مرسلا وزاد فيه قالوا فأخبرنا عن الروح قال "فأنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبريل وهو الذي يأتيني" قالوا: اللهم نعم ولكنه عدو لنا وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء فلولا ذلك اتبعناك. فأنزل الله تعالى فيهم "قل من كان عدوا لجبريل" - إلى قوله - "لا يعلمون" وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد حدثنا عبدالله بن الوليد العجلي عن بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أقبلت يهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عن خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك. فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال والله على ما نقول وكيل قال "هاتوا" قالوا فأخبرنا عن علامة النبي؟ قال "تنام عيناه ولا ينام قلبه" قالوا أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر. قال "يلتقي الماءان فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت" قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه قال "كان يشتكي عرق النساء فلم يجد شيئا يلائمه إلا ألبان كذا" قال أحمد: قال بعضهم يعني الإبل فحرم لحومها قالوا صدقت قالوا أخبرنا ما هذا الرعد. قال "ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب بيديه أو في يديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله تعالى" قالوا فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال "صوته" قالوا صدقت قالوا إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك؟ قال "جبريل عليه السلام" قالوا جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان. فأنزل الله تعالى "قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله" إلى آخر الآية ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبدالله بن الوليد وقال الترمذي: حسن غريب. وقال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج أخبرني القاسم بن أبي بزة أن يهود سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي قال "جبرائيل". قالوا فإنه عدو لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال. فنزلت "قل من كان عدوا لجبريل" الآية قال ابن جرير: قال مجاهد قالت يهود يا محمد ما نزل جبريل إلا بشدة وحرب وقتال فإنه لنا عدو فنزل "قل من كان عدوا لجبريل" الآية قال البخاري قوله تعالى "من كان عدوا لجبريل" قال عكرمة جبر وميك وإسراف: عبد. إيل: الله. حدثنا عبدالله بن منير سمع عبدالله بن بكر حدثنا حميد عن أنس بن مالك قال سمع عبدالله بن سلام بمقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في أرض يخترف فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام أهل الجنة وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه قال "أخبرني بهذه جبرائيل آنفا" قال جبريل: قال "نعم" قال ذاك عدو اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية "من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك" "وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت" قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني فجاءت اليهود فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أي رجل عبدالله بن سلام فيكم؟" قالوا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. قال " أرأيتم إن أسلم " قالوا أعاذه الله من ذلك فخرج عبدالله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقالوا: هو شرنا وابن شرنا وانتقصوه. فقال هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله. انفرد به البخاري من هذا الوجه وقد أخرجه من وجه آخر عن أنس بنحوه وفي صحيح مسلم عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريب من هذا السياق كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وحكاية البخاري كما تقدم عن عكرمة هو المشهور أن إيل هو الله وقد رواه سفيان الثوري عن خصيف عن عكرمة ورواه عبد بن حميد عن إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة ورواه ابن جرير عن الحسين بن يزيد الطحان عن إسحق بن منصور عن قيس بن عاصم عن عكرمة أنه قال إن جبريل اسمه عبدالله وميكائيل اسمه عبدالله إيل الله. ورواه يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس مثله سواء وكذا قال غير واحد من السلف كما سيأتي قريب ومن الناس من يقول إيل عبارة عن عبد والكلمة الأخرى هي اسم الله لأن كلمة إيل لا تتغير في الجميع فوزانه عبدالله عبدالرحمن عبدالملك عبدالقدوس عبدالسلام عبدالكافي عبدالجليل فعبد موجودة فى هذا كله واختلف الأسماء المضاف إليها وكذلك جبرائيل وميكائيل وعزائيل وإسرافيل ونحو ذلك وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف والله أعلم. ثم قال ابن جرير: وقال آخرون بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم. "ذكر من قال ذلك "حدثني بن المثنى حدثني ربعي ابن علية عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال نزل عمر الروحاء فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها فقال ما بال هؤلاء؟ قالوا يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ههنا قال فكفر ذلك وقال أيما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدركته الصلاة بواد صلاها ثم ارتحل فتركه ثم أنشأ يحدثهم فقال: كنت أشهد اليهود يوم مدارسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق القرآن ومن القرآن كيف يصدق التوراة فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب ما من صحابك أحد أحب إلينا منك " قلت "ولم ذلك؟ قالوا لأنك تغشانا وتأتينا. فقلت: إني آتيكم فأعجب من القرآن كيف يصدق التوراة ومن التوراة كيف تصدق القرآن قالوا: ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا ابن الخطاب ذاك صاحبكم فالحق به. قال: فقلت لهم عند ذلك نشدتكم بالله الذي لا إله إلا هو وما استرعاكم من حقه وما استودعكم من كتابه هل تعلمون أنه رسول الله؟ قال: فسكتوا. فقال لهم عالمهم وكبيرهم: إنه قد غلظ عليكم فأجيبوه قالوا فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت. قال: أما إذ نشدتنا بما نشدتنا فإنا نعلم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم. قلت: ويحكم إذا هلكتم. قالوا: إنا لم نهلك قلت كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ولا تتبعونه ولا تصدقونه. قالوا إن لنا عدوا من الملائكة وسلما من الملائكة وإنه قرن بنبوته عدونا من الملائكة. قلت ومن عدوكم ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل وسلمنا ميكائيل قالوا إن جبرائيل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة والتخفيف ونحو هذا قال: قلت وما منزلتهما من ربهما عز وجل؟ قالا أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره قال: فقلت فوالذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما وما ينبغي لجبرائيل أن يسالم عدو ميكائيل وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبرائيل. قال: ثم قمت فاتبعت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلحقته وهو خارج من خوخة لبني فلان فقال "يا ابن الخطاب ألا أقرئك آيات نزلن قبل فقرأ علي "من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله" حتى قرأ الآيات قال: قلت بأبي وأمي أنت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك وأنا أسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن مجالد أنبأنا عامر قال: انطلق عمر بن الخطاب إلى اليهود فقال أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتبكم؟ قالوا نعم قال: فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا: إن الله لم يبعث رسولا إلا جعل له من الملائكة كفلا وإن جبرائيل كفل محمدا وهو الذي يأتيه وهو عدونا من الملائكة وميكائيل سلمنا لو كان ميكائيل الذي يأتيه أسلمنا. قال: فإني أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما منزلتهما عند الله تعالى؟ قالوا: جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله. قال عمر: وإني أشهد ما ينزلان إلا بإذن الله وما كان ميكائيل ليسالم عدو جبرائيل وما كان جبرائيل ليسالم عدو ميكائيل. فبينما هو عندهم إذ مر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا هذا صاحبك يا ابن الخطاب فقام إليه عمر فأتاه وقد أنزل الله عز وجل: "من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإن الله عدو للكافرين" وهذان الإسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به عن عمر ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر فإنه لم يدرك زمانه والله أعلم. وقال ابن جبير: حدثنا بشير حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود فلما انصرف رحبوا به فقال لهم عمر: أما والله ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فيكم ولكن جئت لأسمع منكم فسألهم وسألوه فقالوا من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم جبرائيل. فقالوا ذاك عدونا من أهل السماء يطلع محمدا على سرنا وإذا جاء جاء بالحرب والسنة ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل وكان إذا جاء جاء بالخصب والسلم فقال لهم عمر: هل تعرفون جبرائيل وتنكرون محمدا - صلى الله عليه وسلم؟ ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحدثه حديثهم فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية "قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله" الآيات. ثم قال حدثني المثنى حدثنا آدم حدثنا أبو جعفر حدثنا قتادة. قال بلغنا أن عمر أقبل إلى اليهود يوما فذكر نحوه. وهذا في تفسير آدم وهو أيضا منقطع وكذلك رواه أسباط عن السدي عن عمر مثل هذا أو نحوه وهو منقطع أيضا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار حدثنا عبدالرحمن يعني الدستلي حدثنا أبو جعفر عن حصين بن عبد الرحمن عن عبدالرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا لقي عمر بن الخطاب فقال إن جبرائيل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا. فقال عمر "من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإن الله عدو للكافرين" قال فنزلت على لسان عمر رضي الله عنه ورواه عبد بن حميد عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن أبي جعفر هو الرازي: وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثني هشيم أخبرنا حصين بن عبدالرحمن عن ابن أبي ليلى في قوله تعالى "من كان عدوا لجبريل" قال: قالت اليهود للمسلمين لو أن ميكائيل كان هو الذي ينزل عليكم اتبعناكم فإنه ينزل بالرحمة والغيث وإن جبرائيل ينزل بالعذاب والنقمة فإنه عدو لنا قال فنزلت هذه الآية. حدثنا يعقوب أخبرنا هشيم أخبرنا عبدالملك عن عطاء بنحوه. وقال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله "قل من كان عدوا لجبريل" قال: قالت اليهود إن جبرائيل عدو لنا لأنه ينزل بالشدة والسنة وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب فجبرائيل عدو لنا. فقال الله تعالى "من كان عدوا لجبريل" الآية.
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ

وأما تفسير الآية فقوله تعالى "قل من كان عدوا لجبريل" فإنه نزله على قلبك بإذن الله أي من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك فهو رسول من رسل الله ملكي ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل كما قال تعالى "إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض" الآيتين فحكم عليهم بالكفر المحقق إذا آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدو لله لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه وإنما ينزل بأمر ربه كما قال "وما نتنزل إلا بأمر ربك" الآية وقال تعالى "وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين" وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من عاد لي وليا فقد بارزني بالحرب" ولهذا غضب الله لجبرائيل على من عاداه فقال تعالى "من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه" أي من الكتب المتقدمة "وهدى وبشرى للمؤمنين" أي هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة وليس ذلك إلا للمؤمنين كما قال تعالى "قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء" الآية وقال تعالى "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين" الآية ثم قال تعالى "من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين" يقول تعالى من عاداني وملائكتي ورسلي - ورسله تشمل رسله من الملائكة كما قال تعالى "الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس" - وجبريل وميكال وهذا من باب عطف الخاص على العام فإنهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل ثم خصصا بالذكر لأن السياق في الانتصار لجبرائيل وهو السفير بين الله وأنبيائه وقرن معه مكائيل في اللفظ لأن اليهود زعموا أن جبريل عدوهم وميكائيل وليهم فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحدا منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضا ولأنه أيضا ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان كما قرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ابتداء الأمر ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته وميكائيل موكل بالنبات والقطر هذاك بالهدى وهذا بالرزق كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل يقول " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" وقد تقدم ما حكاه البخاري ورواه ابن جرير عن عكرمة وغيره أنه قال جبر وميك وإسراف: عبيد وإيل: الله وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن إسماعيل بن أبي رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: إنما كان قوله جبرائيل كقوله عبدالله وعبدالرحمن وقيل جبر عبد وإيل الله. وقال محمد بن إسحق عن الزهري عن علي بن الحسين قال: أتدرون ما اسم جبرائيل من أسمائكم؟ قلنا لا قال: اسمه عبدالله وكل اسم مرجعه إلى إيل فهو إلى الله عز وجل قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد والضحاك ويحيى بن يعمر نحو ذلك ثم قال: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثني عبدالعزيز بن عمير قال: اسم جبرائيل في الملائكة خادم الله قال: فحدثت به أبا سليمان الداراني فانتفض وقال: لهذا الحديث أحب إلي من كل شيء في دفتر كان بين يديه. وفي جبرائيل وميكائيل لغات وقراءات تذكر في كتب اللغة والقراءات ولم نطول كتابنا هذا بسرد ذلك إلا أن يدور فهم المعنى عليه أو يرجع الحكم في ذلك إليه وبالله الثقة وهو المستعان وقوله تعالى "فإن الله عدو للكافرين" فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل فإنه عدو بل قال: "فإن الله عدو للكافرين" كما قال الشاعر: لا أرى الموت يسبق الموت شيء سبق الموت ذا الغني والفقيرا وقال الآخر: ليت الغراب غداة ينعب دائبا كان الغراب مقطع الأوداج وإنما أظهر الله هذا الاسم ههنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره وإعلامهم أن من عادى وليا لله فقد عادى الله ومن عادى الله فإن الله عدو له ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة كما تقدم الحديث "من عادى لي وليا فقد آذنته بالمحاربة" وفى الحديث الآخر "إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب" وفي الحديث الصحيح "من كنت خصمه خصمته".
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ۖ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ

قال الإمام أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى "ولقد أنزلنا إليك آيات بينات" الآية أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود ومكنونات سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة فاطلع الله في كتابه الذي أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه ولم يدعها إلى هلاكه الحسد والبغي إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الآيات البينات التي وصف من غير تعلم تعلمه من بشر ولا أخذ شيئا منه عن آدمي كما قال الضحاك عن ابن عباس "ولقد أنزلنا إليك آيات بينات" يقول فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتابا وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه يقول الله تعالى لهم في ذلك عبرة وبيان وعليهم حجة لو كانوا يعلمون. وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة وسعيد ابن جبير عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا القطويني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بينه فنتبعك فأنزل الله في ذلك من قوله "ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون".
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق وما عهد إليهم في محمد - صلى الله عليه وسلم: والله ما عهد إلينا في محمد وما أخذ علينا ميثاقا أنزل الله تعالى "أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم" وقال الحسن البصري: في قوله "بل أكثرهم لا يؤمنون" قال نعم ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه يعاهدون اليوم وينقضون غدا. وقال السدي: لا يؤمنون بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: نبذه فريق منهم أي نقضه فريق منهم. وقال ابن جرير أصل النبذ الطرح والإلقاء ومنه سمى اللقيط منبوذا ومنه سمى النبيذ وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء. قال أبو الأسود الدؤلي: طرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا قلت فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره وقد أمروا فيها باتباعه وموأزرته ونصرته كما قال تعالى "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل الآية.
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ

قال ههنا "ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم" الآية أي طرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم مما فيه البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وراء ظهورهم أي تركوها كأنهم لا يعلمون ما فيها وأقبلوا على تعلم السحر واتباعه ولهذا أرادوا كيدا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسحروه في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر تحت راعوفة ببئر أروان وكان الذي تولى ذلك منهم رجل يقال له لبيد بن الأعصم لعنه الله وقبحه فأطلع الله على ذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - وشفاه منه وأنقذه كما ثبت ذلك مبسوطا في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كما سيأتي بيانه. قال السدي "ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم" قال: لما جاءهم محمد - صلى الله عليه وسلم - عارضوه بالتوراة فخاصموه بها فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن فذلك قوله "كأنهم لا يعلمون" وقال قتادة في قوله "كأنهم لا يعلمون" قال: إن القوم كانوا يعلمون ولكنهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوا به.